في خضم الأزمات تولد الفرص، ومن رحم الشدائد تخرج المنح. هكذا كانت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم بداية من عام 2020، إذ لم تخلُ من ألم وخوف واضطراب، خصوصًا عندما طالت أعزّ البقاع على قلوب المسلمين، المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف. توقفت الصلوات، وتقلص عدد الحجاج والمعتمرين، وخيّم الحزن على الأمة جمعاء.
ولكن، وكما وعد الله أن “فإن مع العسر يسرًا”، جاءت هذه الجائحة لتكون بداية تحول كبير، ونقلة نوعية في إدارة الحرمين الشريفين وخدمة ضيوف الرحمن، حيث شهدنا تطورات لم يكن لها أن تتحقق بهذه السرعة لولا تلك المحنة التي أصبحت منحة في هذا المقال، نسلط الضوء على أبرز الإنجازات والتحولات التي شهدتها المشاعر المقدسة والحرمين الشريفين خلال هذه الفترة، وكيف ساهمت الجائحة في تحسين وتطوير كل ما يتعلق بخدمة الإسلام والمسلمين
أثّرت الجائحة بشكل مباشر على مناسك العمرة والحج، حيث تم تعليقها لفترات معينة، مما حرم ملايين المسلمين من أداء الشعائر. ففي عام 2021، اقتصر أداء فريضة الحج على (1000) حاج من داخل المملكة، من المواطنين والمقيمين، تحت إجراءات صحية مشددة. ثم ارتفع العدد في عام 2022 إلى (60,000) حاج، حتى عاد الحج والعمرة إلى سابق عهدهما تدريجيًا بدءًا من عام 2023 وحتى عام 2025.
ورغم عِظَم المحنة، فقد انبثقت منها منح عظيمة في مختلف المجالات، وسأركز في هذا المقال على ما تحقق في المشاعر المقدسة والحرمين الشريفين، ومن أبرز تلك المنح:
1. التحول الرقمي:
شهد الحرم المكي والمدني تسريعًا ملحوظًا في التحول الرقمي خلال الجائحة، حيث تم توفير خدمات رقمية متعددة، مثل البث المباشر للصلوات والخطب، وحجز المواعيد إلكترونيًا للعمرة والصلاة.
2. تطوير البنية التحتية الصحية:
تم إنشاء مراكز طبية متطورة داخل الحرمين لمواجهة الطوارئ الصحية، وتقديم الرعاية للمصلين والمعتمرين بشكل فعّال وسريع.
3. تطبيق الإجراءات الوقائية:
فُرضت إجراءات احترازية صارمة داخل الحرمين، كالتباعد الاجتماعي، وارتداء الكمامات، والتعقيم المستمر، ما ساهم في الحفاظ على سلامة الزوار والمصلين.
4. تعزيز التعاون والتنسيق:
شهدت فترة الجائحة تنسيقًا عالي المستوى بين الجهات الحكومية والهيئات الدينية لضمان تنظيم الشعائر بأعلى درجات الأمان والسلامة.
5. الابتكار والتطوير التقني:
أدت الأزمة إلى تسريع اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذكية، مما أتاح تقديم خدمات جديدة محسّنة لضيوف الرحمن، وأدى إلى تجربة روحية أكثر تنظيمًا ويسرًا.
6. الاهتمام المتزايد بالصحة العامة:
تم إطلاق خدمات صحية متقدمة شاملة، تُعنى بسلامة المصلين والمعتمرين، وترسخ ثقافة الوقاية والعناية الطبية في الحرمين.
7. تنظيم المسارات داخل الحرمين:
من أبرز ما أفرزته الجائحة، تقسيم المسارات داخل المسجد الحرام إلى مسار مخصص للمعتمرين وآخر للمصلين، بما يمنع التداخل والزحام الذي كان يحدث في السابق. وقد ساعدت التطبيقات الرقمية، مثل تطبيق “نسك”، في ضبط وتنظيم هذه الاستراتيجية بفعالية.
لقد علمتنا جائحة كورونا أن التحديات مهما عظُمت، فإنها تحمل في طيّاتها فرصًا للتجديد والتطوير. فقد خرجت الحرمين الشريفين من هذه الأزمة أقوى، وأكثر تنظيمًا، وأشد حرصًا على صحة الإنسان وسلامته، دون أن يُنتقص من روحانية المكان أو قدسيته.
إن ما تحقق من إنجازات، من التحول الرقمي إلى الابتكار الصحي والتنظيمي، ليس سوى بداية لتحقيق رؤية المملكة 2030، والوصول إلى خدمة ثلاثين مليون حاج ومعتمر سنويًا، بإذن الله.وبفضل الله ثم بفضل القيادة الرشيدة وجهود أبناء الوطن وتعاون المسلمين، ستظل مكة والمدينة منارات هدى، وموئل رحمة، وشاهدتين على أن الأزمات لا تعني التوقف، بل الانطلاق نحو الأفضل