الكتمان ليس صمتًا عابرًا، بل هو حالة شعورية عميقة، تختبئ خلف الوجوه المتماسكة، وتستوطن الأرواح بصمت مؤلم. هو ذاك الوجع الذي لا يُقال، والعَبرة التي نكتمها في لحظتها، فتصبح عنوانًا لصبرنا، ودليلًا على قدرتنا على الاحتمال، وإن لم يكن ذلك دومًا عن طيب خاطر.
في لحظات كثيرة، لا نكتم لأننا أقوياء، بل لأننا خُذلنا. خيبات متتالية ممن اعتقدنا أنهم الأقرب جعلتنا نلوذ بصمتنا، حتى بات الكتمان سلاحنا الوحيد. نحمل همّ أرواحنا بصدر ضيّق، نحبس دموعنا كي لا يراها أحد، ونرتدي ابتسامة صلبة نخفي خلفها انكسارات متراكمة.
البوح أصبح رفاهية لا نملكها، فنضحك كثيرًا حتى لا يُلاحظ أحد أن قلوبنا تبكي في صمت. الصمت أصبح رداءنا، والكتمان غلافًا نحفظ به كرامة الشعور، فنبدو بخير ونحن على وشك الانهيار.
الكتمان، في ظاهره قوة، لكنه في عمقه وجعٌ مؤجل. ينخر الأرواح بهدوء، يكسِر الداخل بلا صوت، ويحيل الحزن إلى رماد حارق. إنه يحوّل الدموع إلى حرقة، ويحوّل الصمت إلى لهيب لا يرحم. ينهشنا كما تفعل النار في الهشيم، ببطء، وبدون أن يلاحظ الآخرون.
وأكثر الناس وجعًا، هم أولئك الذين لا يتحدثون. أولئك الذين إذا نظرت في أعينهم، رأيت حربًا خفية لا يخوضها سواهم. شخصياتهم صامتة، لكنها تحمل في داخلها عواصف لا تهدأ.
ما نحتاجه في كثير من الأحيان لا يتجاوز كلمة واحدة في وقتها، أو أذنًا تُصغي دون أن تُصدر حكمًا. فكم هو قاسٍ أن تعيش غريبًا داخل نفسك، مليئًا بالكلام، ولا تجد من يُنصت لك حقًا.
نعم، الكتمان ليس دائمًا خيارًا. أحيانًا يكون هروبًا، وأحيانًا أخرى يكون حيلة الدفاع الأخيرة. لكنه يظل، في نهاية الأمر، حيلة من لا يريد أن يُهان، ولا يُشفق عليه أحد. هو حيلة أهل النفوس العزيزة، أولئك الذين آثروا الصمت على أن يُقال عنهم “ضعفاء”.