إن الإنفاق العسكري يفرض – في كل زمان – تحدٍ من نوع جديد. فهو أحد أوجه الإنفاق التي تنمو بمعدلات متسارعة، دون أن تعطي عائداً اقتصادياً ملموساً على شكل سلع وخدمات سوقية. ومن جانب آخر فإن غياب الأمن الذي يترتب على تقليص الموارد المخصصة للمؤسسة العسكرية قد يهدد أو يقضي على كل منجزات التنمية في حال وجود خطر خارجي.
يقول د. عبدالرزاق الفارس في كتابه “الإنفاق العسكري في الوطن العربي 1970-1990م”: إن القناعة التي سادت الأدبيات الاقتصادية والتنموية منها بالذات، هي أن الإنفاق العسكري شر لا بد منه.
ولذا، ينبغي وضع كافة القيود التي من شأنها ضمان توسعه بمقدار الحاجة الحقيقية للدولة وذلك لأن هناك علاقة تبادلية بين التسلح والتنمية، حيث إن زيادة العبء العسكري سيخفض من الموارد المتاحة للاستثمار، ومن ثم يعمل على تباطؤ معدلات النمو .
وقد أكد هذه القناعات بعض التقارير الصادرة عن لجان عالمية مهمة، مثل لجنة تخطيط التنمية التابعة للأمم المتحدة ولجنة برانت وبالم، كما أكدتها الدراسات الاقتصادية التطبيقية العديدة على الدول المتقدمة.
هذه القناعات السائدة حول الآثار السلبية للإنفاق العسكري في التنمية، تم تحديدها في دراسات معينة.
ومن ذلك دراسة موسعة قام بها بينويت التي أثارت جدلاً واسعاً واهتماماً كبيراً من قبل اقتصاديين عديدين .
فقد شملت دراسة بينويت أربعاً وأربعين دولة نامية تحوز على حوالي ثلاثة أرباع كل من إجمالي السكان والناتج المحلي الإجمالي والإنفاق العسكري في الدول النامية جميعاً باستثناء الصين.
وقد ركز بينويت على تحليل العلاقة الإحصائية والاقتصادية بين عبء الدفاع أو التسلح، الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي المدني، معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي مطروحاً منه الإنفاق العسكري .
وقد حدد بينويت قناتين مهمتين يؤثر من خلالها الارتفاع في العبء العسكري سلبياً في النمو هما:
1) مرونة الاستثمار في نمط تخصيص الموارد التي كان من الممكن أن تحول للاستثمار .
2) المعدل الحدي لرأس المال إلى الإنتاج أي مدى تأثير انخفاض الاستثمار سلباً في الإنتاج .
والنتيجة الأولى التي أظهرتها الدراسة، باستخدام تحليل معامل الارتباط هي أن الدول التي لديها معدلات عالية من الإنفاق العسكري أحرزت معدلات أعلى من النمو الاقتصادي والعكس صحيح . ومُعامل الارتباط بين معدل نمو الإنفاق العسكري ومعدل النمو الاقتصادي كان عالياً جداً إلى درجة أن الافتراض بأن العلاقة جاءت عن طريق المصادفة أو الخطأ احتمال يقارب الواحد في الألف.
بَيْدَ أن هناك إشكالات، فهذا الارتباط الظاهري قد يكون زائفاً، أي أنه قد يكون تسبب بفعل وجود عوامل تؤثر في كل من المتغيرات الدراسية وهو من شأنه إظهار علاقة ارتباط بينهما غير موجودة فعلياً.
ويبدو ذلك جلياً مثلاً في المعونات العسكرية الخارجية لبناء منشآت عسكرية، التي قد تحفز الإنفاق العسكري المحلي. فهذه المعونات قد يكون لها آثار في أداء المتغيرات الاقتصادية الكلية، الاستثمار، الاستهلاك، ومن ثم تأثير إيجابي في النمو الاقتصادي .
ومن ثم، فإن أي دراسة للارتباط بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي قد تظهر موجبة بفعل المؤثر الخارجي بينما هي في حقيقة الأمر غير ذلك .
ويشير بينويت إلى العديد من الآثار الإيجابية التي يسببها الإنفاق العسكري بطريق مباشر أو غير مباشر والتي لها آثار حافزة للنمو في مستوى كلي. بعض هذه تتمثل في إحداث توجهات إيجابية نحو العمل مما يرفع من إنتاجية الفرد ويطوّر المهارات الفنية الكامنة. وإذا ما انتقل هؤلاء الأفراد بعد الخدمة العسكرية إلى القطاع الخاص فستكون لذلك إضافات إيجابية للأداء الاقتصادي.
والنتيجة الأخرى في دراسة بينويت، والتي ربما لا تقل إثارة عن الأولى، هي أن برامج الإنفاق العسكري في الدول النامية قد تكون حفزت النمو من طريق إحداث طلب فعال يشابه النموذج الكينزي، مما من شأنه إحداث آلية تعمل على تطوير الاستخدام الأمثل للموارد. والدليل الأكثر قوة على مثل هذا الاحتمال هو قيام علاقة ارتباط موجبة وقوية بين معدل التضخم في هذه الدول ومعدل النمو الاقتصادي.
وأخيراً، يقر بينويت بأن للإنفاق العسكري آثاراً سلبية واضحة على الإنتاجية في المجتمع. فالإنتاجية في القطاع الحكومي عموماً والقطاع العسكري بشكل خاص هي متدنية.
ولذا، فإن التوسع في القطاع العسكري سيؤدي إلى توسيع ذلك الجزء من الاقتصاد الذي لا يؤدي إلى مزيد من النمو، بل وربما يعمل على عرقلته.
ولكنه من جانب آخر يعترض على استخدام الاقتصاديين لمفهوم تكلفة الفرصة البديلة لقياس عبء التسلح. واعتراضه مبني على أن الاستخدامات البديلة ينبغي أن تغني الاستخدامات الواقعية التي كانت الموارد ستخصص لها فعلاً، وليست الاستخدامات المثلى التي كان من الأفضل أن توجه الاستثمارات نحوها، والتي هي في تصورات وأذهان الاقتصاديين، ولكنها ربما لا تكون في أرض الواقع.
ختاماً أقول: لقد أثارت دراسة بينويت ولا تزال جدلاً واسعاً بين الاقتصاديين، والمعنيين منهم بدراسات التنمية بشكل خاص. وأجريت العديد من الدراسات التي كان محور اهتمامها إعادة اختيار بعض الفرضيات التي انطلق منها بينويت والتحقق من النتائج التي توصل إليها
تعليق واحد
بارك الله فيكم دكتور زيد، أثر الإنفاق العسكري على التنمية يعتمد ذلك على ظروف كل دولة، ولذلك من المهم الاستمرار في البحث كيف نحقق التوازن بين الأمن والتنمية.