لم أكن يومًا ممن يُحبّون الوحدة أو يبحثون عنها. لم أكن من أولئك الذين يجدون في العزلة متعة أو اكتفاءً. على العكس، كنت أؤمن دائمًا أن الإنسان وُجد ليكون مع الآخرين، أن يشاركهم مشاعره، أحلامه، وحتى لحظات ضعفه.
لكن الحياة، بتجاربها المتراكمة، بخيباتها المتكررة، تُغيّرنا دون أن نشعر. تسرق منّا ببطء تلك القدرة العفوية على العطاء، وتُنهك أرواحنا حتى نختار التراجع… لا هروبًا، بل حمايةً لما تبقى فينا من نقاء.
اخترت العزلة، لا حبًا في الوحدة، بل لأن روحي تعبت. أُنهكت من المواجهات المستمرة، من محاولات التفسير، من التبرير، من التحمّل. لم أعد أملك القوة لمواجهة أشخاص لا يرون سوا أنفسهم، لا يكترثون سوى لما يريدونه، ويتعاملون معك وكأن وجودك مشروطٌ بخدمتهم فقط.
العزلة، كما فهمتها متأخرًا، ليست انسحابًا من الحياة، بل وقفة مع الذات. هي مساحة نمنحها لأنفسنا لنعيد ترتيب فوضى مشاعرنا، لنتنفس، لنُرمّم ما تهدّم داخلنا بصمت.
هي ليست عقابًا، بل استراحة، نختارها حين تُصبح الضوضاء من حولنا أقسى من السكوت.
في نهاية المطاف، ليس من الخطأ أن نختار أنفسنا، أن نضع حدًا لما يستنزفنا. لأننا حين نُهمل أرواحنا إرضاءً للآخرين، لا نبقى معهم حقًا… بل نصبح مجرد ظلال باهتة لأنفسنا.
