في مطلع كل عام هجري جديد، ومع أولى خيوط فجر غرة محرم، تتوجه أنظار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها صوب الكعبة المشرفة، حيث يُقام أحد أقدس الطقوس وأشدّها مهابة: مراسم استبدال كسوة الكعبة. إنه مشهد فريد يجسد عظمة الزمان والمكان، ويُعبّر عن الإجلال والتعظيم لبيت الله الحرام، مهوى أفئدة المسلمين.
✨ مناسبة استبدال الكسوة.. روحانية الزمان والمكان
تُعد كسوة الكعبة المشرفة من أسمى رموز الدين الإسلامي، لما تحمله من قدسية وروحانية راسخة في القلوب. ويتم استبدال الثوب الأسود الفاخر سنويًا في غرة محرم، احتفالًا بحلول العام الهجري، في مراسم مهيبة تفيض بالإيمان والرهبة.
ويُصنع هذا الثوب من أفخم أنواع الحرير الطبيعي، المنقوش عليه آيات من الذكر الحكيم، مطرّزة بخيوط الفضة وخيوط الفضة المطلية بالذهب ، في تعبير عن مدى العناية والتقدير لبيت الله الحرام. ولا يُعد هذا الحدث الجليل طقسًا دينيًا فحسب، بل هو سنة نبوية مباركة درج عليها الخلفاء الراشدون، وتواصل المملكة العربية السعودية اليوم أداءها بإشراف مباشر ورعاية كاملة، عبر مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة، منذ عام 1381هـ.
🧵 من خيوط الحرير إلى ثوب الهيبة.. رحلة صناعة الكسوة
تمر صناعة الكسوة بمجموعة من المراحل المعقدة والدقيقة، ينفذها نخبة من أمهر الكفاءات الوطنية السعودية، يبلغ عددهم 154 فنيًا وحِرَفيًا، تحت إشراف تقني وفني رفيع، ويتضمن العمل:
المختبر: لإجراء الاختبارات الفنية على الحرير قبل وبعد الصباغة.
الصباغة: حيث يُستورد أجود أنواع الحرير الطبيعي ويُصبغ باللون الأسود للكسوة الخارجية، أو الأخضر للداخلية.
النسيج: تحويل الخيوط إلى أقمشة باستخدام أنوال آلية متطورة.
التصميم: رسم النقوش والزخارف والخطوط القرآنية بعناية فائقة.
الطباعة: نقل التصاميم إلى الأقمشة باستخدام تقنيات متقدمة مثل “الشابلونات”.
التطريز: تطريز الآيات الكريمة بخيوط الذهب والفضة، ثم تجميع الأجزاء وتبطينها بقماش قطني مميز.
📊 أرقام وحقائق عن ثوب الكعبة
كمية الحرير المستخدم: نحو 825 كجم.
عدد الكلمات المطرزة: 763 كلمة قرآنية موزعة على جميع أجزاء الكسوة.
عدد القطع: 47 قطعة (كل منها بطول 14 مترًا × 95 سم).
تكلفة الصناعة: حوالي 22 مليون ريال سعودي.
عدد العاملين: ما يقارب 200 من الحرفيين والفنيين والإداريين.
الحزام العلوي: عرضه 95 سم، وطوله 47 مترًا، مكون من 16 قطعة.
ستارة باب الكعبة: ارتفاعها 6.35 متر، بعرض 3.30 متر، مزينة بزخارف مذهبة وآيات قرآنية.
الكتابات المطرزة: تتضمن “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، و”سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم”، و”يا ديان يا منان”.
🕋 رمزية الكسوة.. وحدة قلوب المسلمين حول قبلة واحدة
لا تقتصر رمزية الكسوة على الجانب المادي والفني فحسب، بل تحمل دلالة إيمانية عظيمة، إذ تُمثل وحدة الأمة الإسلامية التي تجتمع على قبلة واحدة. فالكسوة تذكر المسلمين بسنة النبي ﷺ وبأن الحرم المكي الشريف حيّ في قلوبهم رغم اختلاف أعراقهم ولغاتهم وأوطانهم.
وقد بدأت قصة كسوة الكعبة منذ الجاهلية، إذ يُروى أن أول من كسا الكعبة كسوة كاملة هو الملك تُبّع أسعد الحميري عام 220 قبل الهجرة، لتستمر هذه الشعيرة بعد الإسلام، ويكسوها النبي ﷺ ثم الخلفاء الراشدون، إلى أن تولت المملكة العربية السعودية هذا الشرف رسميًا، منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، بتأسيس أول مصنع للكسوة عام 1926م في حي أم الجود بمكة المكرمة.
✨ ثوب الكعبة.. هيبة لا تزول ومكانة لا تموت
إن لحظة استبدال ثوب الكعبة المشرفة ليست مجرد صناعة أو موروثًا حضاريًا، بل هي شعيرة مقدسة تُجدد قداسة وعظمة الكعبة، وتُعيد في القلوب هيبة المكان، وروحانية الزمان. إنه الثوب الذي يليق بأقدس بيت على وجه الأرض، بيت الله الحرام، وقبلة المسلمين جميعًا، ومهوى أفئدتهم.
نسأل الله أن يكتب لمقام خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين عظيم الأجر والثواب على ما يقدمانه من عناية ورعاية، امتدادًا لما بدأه المؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود – طيب الله ثراه – وأن يجعل ما يقدمانه في موازين حسناتهما، وأن يُديم علينا نعمة الأمن والإيمان، والطاعة والإسلام، وأن يُبارك للأمة الإسلامية عامها الهجري الجديد