خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: أيها المسلمون: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وافترض عليهم فرائض متفاوتة في الفضل بعضها أحب إليه من بعض؛ ومن أعظم الطاعات، وأفضل القربات: حج بيت الله الحرام، الذي هو أحد أركان الإسلام، وأصل من أصوله العظام، سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور».
وأضاف فضيلته: أقسم الله بالزمان الذي هو فيه؛ فقال: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، وأقسم بالمكان الذي يؤدى فيه؛ فقال: (لا أُقسِمُ بِهَذَا البَلَدِ) ، واختار سبحانه خير بلاده، وأحبها إليه، لتقام على عرصاتها مناسك الحج، ولا يُطاف على بقعة من الأرض سوى حول الكعبة المشرفة؛ وهو فريضة وقربة، قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج؛ فحجوا».
وأوضح: فضائله متتابعة على الحاج من حين دخوله في النسك، فإذا لبى: وافقه في التلبية كل رطب ويابس في جميع الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حى تنقطع الأرض من هَهُنا وهَهُنا»؛ وقال صلى الله عليه وسلم: «وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج والمعتمر».
وبيّن فضيلته: به تمحى أدران الذنوب والخطايا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الحج يهدم ما كان قبله»؛ وهو طهرة للحاج من الذنوب، إن سلم من جميع المعاصي والوطء والتعريض به، قال صلى الله عليه وسلم : «من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه»، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «المحو يكون للصغائر تارة، ويكون للكبائر تارة، باعتبار الموازنة؛ والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله له به كبائر».
وأضاف: يباهي الله ملائكته بالحجاج، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟».
وبيّن فضيلته: ومن أتى جميع أركانه وواجباته مع إخلاص النية، ولم يخالطه بمأثم؛ فجزاؤه الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم : «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (متفق عليه).
الحج طاعة يصحبها طاعات، ملي بالمنافع والعبر والآيات، وأعظم ما يتقرب به العباد في حجهم: إظهار التوحيد في مناسكهم، وإخلاص الأعمال لله في قرباتهم، وتسليم النفس له عبودية ورِقًا؛ وإعلان وحدانية الله في الحج شعار أهله، وبه شرفهم؛ «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
وأكمل: الحج مقصد في تحقيق الاتباع والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلا نسك ولا عبادة إلا بما وافق هديه؛ والاتباع دليل الصدق والإيمان والمحبة؛ وكل عبادة على خلاف هديه عليه الصلاة والسلام فإن الله لا يقبلها.
وبيّن: والمسلم يتمسك بدينه وينأى بنفسه عن أفعال الجاهلية وسلوكهم، وفي الحج تأكيد على ذلك تِلْوَ تأكيد، وفي الحج تواضع لله ولخلقه، وإقرار بأن الكبر لله وحده سبحانه، وإعلان ذلك بالتكبير عند الرمي والطواف وفي يوم النحر وأيام التشريق؛ لتبقى القلوب متعلقة بالله، نقية عن كل ما سواه؛ وذكر الله تعالى يصاحب الحجاج كلما أقاموا أو ارتحلوا، وإذا صعدوا أو هبطوا، ولا يزال مرافقا لهم حتى بعد فراغهم من نسكهم؛ قال تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا).
وأوضح فضيلته: في التلبس بالإحرام دعوة للنفس إلى عصيان الهوى – فلا لُبس مخيط ولا مس طيب ولا تقليم أظافر ولا خطبة نكاح؛ وفيه تزول فوارق زخرف الدنيا، ويظهر الخلق سواسية لا تمايز بينهم في المظهر؛ فلباس الجميع كلباس الأكفان.
وأضاف: في الحج تظهر عظمة الإسلام في توحيد الشعوب على الحق، وجمعهم على كلمة الإسلام، يقصدون مكاناً واحداً، ويعبدون رباً واحداً، ويتبعون نبياً واحاداً، ويتلون كتاباً واحاداً؛ وفيه تتلاشى فواصل الأجناس واللغات، والأقطار والألوان، ويظهر فيه ميزان التقوى والإيمان؛ وفيه يأتلف المسلمون وتقوى أواصر المحبة بينهم، فيظهر للخلق عظمة الإسلام وفضله، وعز هذه الأمة وعلو شأنها؛ وزينة الحجاج: إظهار جمال أخلاقهم، ومن البر في الحج: إطعام الطعام فيه، وإفشاء السلام، وطيب الكلام، ومعاملة الخلق بالإحسان إليهم، والإحسان إلى الحجاج عبادة متعدية النفع، قال مجاهد رحمه الله: «صحبت ابن عمر رضي الله عنهما في السفر لأخدمه؛ فكان يخدمني»؛ ويتأمل الحاج ذل إبليس في موطن رمي الجمار، حين ظهر على إبراهيم عليه السلام ثلاث مرات ليمنعه عن امتثال أمر ربه بذبح ابنه إسماعيل؛ فرماه الخليل بالحجر مُهينًا له ومُظهرًا له العداوة، وعودة خروجه على الخليل تذكير لنا بأن إبليس يعاود وسوسته لبني آدم وفي عدة مواطن.
وأوضح فضيلته: في الحج تربية للنفس وترويض لها على ترك الرغبات؛ فالحاج يترك بعض الأمور المباحة كلبس المخيط والطيب؛ ومن كف نفسه عن محظورات الإحرام في حجه؛ حري به أن يكفها عن المعاصي في كل زمان ومكان؛ وفيه حث على إتقان العمل وبيان لأهمية الوقت؛ فبغروب الشمس تحول من بقعة إلى بقعة، وانتقال من منسك إلى منسك، لا يسبق فعل فعلًا، نظام عامر في الحياة والشعائر، منه المنطلق في الإخلاص والاتباع.
وأضاف: لحظات الحج عزيزة وساعاته ثمينة، قال عز وجل: (واذكروا الله في أيام معدودات)، وهو تذكير بالاستعداد للرحيل إلى الدار الآخرة، فالحاج يترك ماله وأهله ويرحل للحج، وهو آخر أركان الإسلام، وأداؤه في آخر شهر في العام، وفعله النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ولبس الإحرام تذكير بالأكفان، واجتماع العباد والوقوف بالمشاعر تذكير باجتماعهم في المحشر ووقوفهم بين يدي الله.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: القاعد لعذر عن العمل الصالح شريك للعامل إذا صدقت نيته وربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم، ومن فاته الوقوف بعرفة؛ فليقم لله بحقه الذي عرَّفه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة؛ فليبيت عزمه على طاعة الله، وقد شُرع له صيام يوم عرفة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة الي قبله والسنة التي بعده»؛ فشاركوا الحجيج في هذه الأيام العشر بالدعاء والتهليل، والتكبير والتحميد، وسائر أنواع الذكر، وأكثروا منها كل حين، واغتنموا مواسم العبادة قبل فواتها؛ فالحياة مغنم والأيام معدودة، والأعمار قصيرة.