رَمَضانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، يُنْتَظَرُ كُلَّ عامٍ بِشَوْقٍ وَتَشَوُّفٍ، لِمَا يَحْمِلُهُ مِن نَفَحَاتٍ إيمَانِيَّةٍ وَأَجْوَاءٍ رُوحِيَّةٍ تُطَهِّرُ القُلُوبَ وَتُجَدِّدُ النُّفُوسَ. هُوَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَالإِحْسَانِ، فِيهِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ الجَحِيمِ، فَيَكُونُ فُرْصَةً لِلتَّقَرُّبِ مِنَ اللهِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالعَادَاتِ السَّيِّئَةِ. لَكِنْ بَيْنَ أَمْسٍ وَيَوْمٍ، تَغَيَّرَتِ العَادَاتُ، وَبَدَتِ الصُّورَةُ مُخْتَلِفَةً، فَأَيْنَ تِلْكَ البَسَاطَةُ وَالرُّوحَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُزَيِّنُ هَذَا الشَّهْرَ؟
فِي المَاضِي، كَانَ رَمَضانُ شَهْرًا لِلإِيمَانِ وَالعِبَادَةِ وَالوُدِّ بَيْنَ النَّاسِ. كَانَتْ الحَيَاةُ فِيهِ تَسِيرُ بِهُدُوءٍ وَوَقَارٍ، وَكَانَ لِلصَّوْمِ مَعْنًى أَعْمَقُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهُوَ تَهْذِيبٌ لِلنَّفْسِ وَسُلُوكٌ رَاقٍ يَنْعَكِسُ عَلَى كُلِّ تَفَاصِيلِ الحَيَاةِ. مَوَائِدُ الإِفْطَارِ كَانَتْ بَسِيطَةً، تَحْتَوِي عَلَى التَّمْرِ وَالمَاءِ وَبَعْضِ المَأْكُولَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تُعِيدُ لِلْجِسْمِ حَيَوِيَّتَهُ بِطَرِيقَةٍ صِحِّيَّةٍ، وَكَانَ الإِفْطَارُ يُؤَدَّى بِهُدُوءٍ وَخُشُوعٍ، لَا يُرَافِقُهُ ضَجِيجُ المَرْئِيَّاتِ أَوْ صَخَبُ التَّسَلِيَةِ.
بَعْدَ الإِفْطَارِ، كَانَ النَّاسُ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى المَسَاجِدِ لِأَدَاءِ صَلَاةِ المَغْرِبِ وَالتَّرَاوِيحِ، وَتَكُونُ المَسَاجِدُ مُزْدَحِمَةً بِالمُصَلِّينَ، الَّذِينَ يَتَلَذَّذُونَ بِأَصْوَاتِ القُرَّاءِ وَيَعِيشُونَ أَجْوَاءً مَلِيئَةً بِالخُشُوعِ وَالإِيمَانِ. كَانَتِ الجَلَسَاتُ العَائِلِيَّةُ تُحْيِي الأُمَسِيَاتِ الرَّمَضَانِيَّةِ، وَتُعَزِّزُ صِلَةَ الرَّحِمِ، فَتَكُونُ المَنَازِلُ مَفْتُوحَةً لِلضُّيُوفِ، وَيَتَبَادَلُ النَّاسُ الزِّيَارَاتِ وَالدُّعَاءَ وَالتَّهَانِي.
لَكِنَّ رَمَضانَ اليَوْمَ اتَّخَذَ وَجْهًا مُخْتَلِفًا، فَكَثِيرُونَ أَضَاعُوا جَوْهَرَ الشَّهْرِ، وَأَصْبَحَتِ المَادِّيَّةُ تَطْغَى عَلَى القِيَمِ الرُّوحِيَّةِ. مَوَائِدُ الإِفْطَارِ امْتَلَأَتْ بِأَنْوَاعٍ لا تُحْصَى مِنَ الطَّعَامِ، وَبَاتَ التَّسَابُقُ فِي الإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ ظَاهِرَةً مُلْفِتَةً، حَتَّى أَصْبَحَ شَهْرُ الصِّيَامِ فِي أَعْيُنِ البَعْضِ شَهْرًا لِلأَكْلِ وَالتَّسَوُّقِ وَالتَّرْفِيهِ. المَقَاهِي الرَّمَضَانِيَّةُ أَصْبَحَتْ تَجْتَذِبُ كَثِيرِينَ، وَيَقْضُونَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ فِي السَّهَرِ وَالتَّسْلِيَةِ، بَيْنَمَا تُهْمَلُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ وَالقِيَامُ، وَيَتَحَوَّلُ الوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَكُونُ لِلذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ إِلَى مُشَاهَدَةِ المُسَلْسَلَاتِ وَالبَرَامِجِ الَّتِي لَا تَتَنَاسَبُ مَعَ قُدْسِيَّةِ الشَّهْرِ.
وَمَعَ تَغَيُّرِ العَادَاتِ، اخْتَفَتْ تِلْكَ الدِّفْءُ العَائِلِيَّةُ، وَأَصْبَحَتِ الزِّيَارَاتُ نَادِرَةً، وَحَلَّتْ مَحَلَّهَا الرَّسَائِلُ السَّرِيعَةُ وَالمُكَالَمَاتُ الهَاتِفِيَّةُ. لَمْ تَعُدِ البُيُوتُ تَمْتَلِئُ بِالأَهْلِ وَالأَصْدِقَاءِ كَمَا كَانَ فِي السَّابِقِ، وَأَصْبَحَ رَمَضانُ يَفْقِدُ بَعْضًا مِنْ رُوحِهِ وَجَمَالِهِ.
رَمَضانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَقْوِيمٍ يُحْتَسَبُ، بَلْ هُوَ مَدْرَسَةٌ لِلتَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ، وَفُرْصَةٌ لِلتَّجْدِيدِ وَالتَّوْبَةِ. لَيْسَ المُهِمُّ مَا يَتَغَيَّرُ مِنَ العَادَاتِ، بَلْ المُهِمُّ أَنْ نَحْفَظَ لِهَذَا الشَّهْرِ قِيمَتَهُ وَجَوْهَرَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ مِنْهُ مَوْسِمًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ، وَأَنْ نَسْتَعِيدَ مَا فَقَدْنَاهُ مِنْ قِيَمٍ وَعَادَاتٍ كَانَتْ تُضْفِي عَلَى هَذَا الشَّهْرِ بَهَاءَهُ وَرُوحَانِيَّتَهُ.
فَمَا أَسْرَعَ مَا يَمْضِي رَمَضانُ، وَمَا أَبْطَأَ مَا يَتَغَيَّرُ الإِنْسَانُ!