البيوتكنولوجية: كلمة ولدت منذ حوالي ثلاثين عامًا، بيد أنها أصبحت اليوم من الألفاظ الشائعة، خاصة في أوساط العلم والتجريب.
إنها أبعد ما تكون من فراغها من كل مضمون عاطفي، إنها تحمل مشاعر متنوعة تتراوح بين التعجب أمام الإمكانات الهائلة التي فتح أبوابها الاستخدام غير المحدود تقريبًا لما هو حي، والأمل في أن يتمَّ التوصُّل قريبًا إلى تطبيقات اقتصادية خرافية.
إنها تنطوي أيضًا على مخاوف عديدة!! فإلى أين تسير بنا البيوتكنولوجيات التي تسهم في كشف النقاب عن أسرار الحياة؟!
إن أول الأمثلة التطبيقية التي تعتبر انعكاسًا لهذه الآمال ولتلك المخاوف، والتي تقدم البيوتكنولوجيات وكأنها قُبَّعة ساحر خرافية تخرج بقرات ضخمة بحجم الفيل، وأطفالاً حسب الطلب، ونباتات تتفتح وسط الصحراء، والانتصار الساحق في مكافحة بعض الأمراض الكبرى؛ الإيدز، والسرطان.
البيولوجيا: علم الأحياء التي أصبحت في مصاف العلوم الكبرى، مثل:
الفيزياء، تشكِّل القاسم المشترك لكل هذه الانتصارات العلمية.
ومن ثَمَّ، ستعرف البيوتكنولوجيات سريعًا على أنها مجمل التقنيات والمعارف المرتبطة باستخدام ما هو حيّ في عمليات الإنتاج المنبثقة من أوجه التقدم الحديثة التي حققتها البيولوجيا الجزئية.
إن تفتح البيوتكنولوجيات يحدث في سياق اقتصادي يشكو من أزمة عالمية باقية؛ لذا يرى العديد من المراقبين في هذه التكنولوجيات الجديدة وسيلة متميزة لتجدد بعض النشاط.
وكيف إذًا لا نتساءل عن العلاقات بين العلم والتقنية والاقتصاد والبيوتكنولوجيات؟!
عادة ما تقدم نظريات مختلفة لتفسير نشأة البيوتكنولوجيات من وجهة نظر اقتصادية، ومن بينها ربما كان تناقص الموارد الطبيعية غير المتجددة الذي كشفت عنه أزمة النِّفط أكثر ارتباطًا بالوضع الاقتصادي.
يقول بيير جولي في كتاب "البيوتكنولوجيات": إنه من اللازم تجاوز التفسيرات الجزئية؛ بإعادة إدراج التغير التقني في إطار نظريات الدورات الطويلة.
إن مقومات البيوتكنولوجيات تظهر عندئذ بكامل حجمها؛ فهي إذ تهيِّئ الإحلال التدريجي لقوانين البيولوجيا محل المبادئ الفيزيائية الكيميائية التي تستند إليها الوسائل الصناعية التقليدية، تسهم في التحول الحالي للنظام الاقتصادي.
تبدو البيوتكنولوجيات باعتبارها وسيلة للتحرر من القيود المرتبطة بالموارد الطبيعية، أو سوف تساعد الاستعمال المطرد للموارد المتجددة، وهكذا فإن الكتلة الحيوية لن تحلَّ محل النفط كمصدر للطاقة فحسب، وإنما أيًضا كمادة أوليَّة لإنتاج المواد الوسيطة الكبرى للكيمياء العضوية.
ومن ثَمَّ، تحل البيوتكنولوجيات والوسائل الأنزيمية في الصناعة الكيميائية محل الأساليب الحفزية، فتسهم في الاقتصاد في الطاقة.
كما أن البيوتكنولوجيات تستطيع أن تسهم في صيانة البيئة والحفاظ عليها؛ إذ من المنتظر تكوين سلالات مجهريَّة جديدة لاستخدامها في وسائل إزالة التلوث، مثل: المد والجزر الأسود، معالجة القمامة المنزلية والمياه المستهلكة.
عليه، فالبيوتكنولوجيات تندرج في إطار تحول أساسي لمجمعاتنا، يصعب اليوم تصور آثاره ومقوماته.
ويمكن الاعتقاد بناءً على ذلك: بأن قوانين البيولوجيا ستحلُّ تدريجيًّا محل المبادئ الفيزيائية الكيميائية التي هيمنت حتى الآن على الحياة الاقتصادية والفكرية والاجتماعية، وإحلال التفاعلات الأنزيمية محل أساليب الحفز؛ ليشكل مثالاً ملموسًا، ولو بشكل جزئي.
كما أن انتشار المفاهيم الحيوية في العلوم الاجتماعية ملموس جدًّا.
ودون الذهاب إلى تطرُّف البيولوجيا الاجتماعية التي تقترح تنظيم المجتمع على أساس اعتبارات الهندسة الوراثية والقوانين الحيوية، نستطيع أن نلحظ نشأة تيار تحولي في الاقتصاد.
يقول شانتال ديكو في كتاب "البيوتكنولوجيات": إن البيوتكنولوجيات في مجملها تشكل طريقة جديدة لتصور وحل مشكلات محددة.
إنها لن تشكل قطاعًا جديدًا، بيد أنها ستنشر في كافة الأنشطة الإنتاجية القائمة.
وسوف تشكل البيوتكنولوجيات أداةً ستدعم اتجاهات النظام الإنتاجي الجديد، خاصة إزالة السمة المادية، والانتقال التدريجي من صناعة المنتجات إلى صناعة الوظيفة.
إن خصائص البيوتكنولوجيات ثلاث، لها أهمية أساسية بالنسبة للكيفية التي ستتطور بها الأنشطة الاقتصادية، فالبيوتكنولوجيات عرضية ومتراكبة ومتكاملة.
فالسمة العرضية للبيوتكنولوجيات في كون الهندسة الوراثية لن تتمكن من تحقيق ابتكار تجاري، إلا إذا تم مقارنتها بتقنيات إضافية، وبسبب هذه السمة سوف تستطيع مؤسسة لها استثمار مهم في تقنية أساسية من أن تستهدف عدة قطاعات تطبيقية.
أما السمة التركيبة، فتعنى أن الابتكار يستند الى تآلف تقنيات أولية، وبسب هذه السمة كثيرًا ما تصادف مؤسسة صعوبات في السيطرة على كل التقنيات اللازمة.
ومن جهة ثالثة، غالبًا ما تكون البيوتكنولوجيات مكملة للتكنولوجيات التقليدية.
إن القيمة الصناعية للبيوتكنولوجيات ستتوقف على الإستراتيجيات التي يأخذ بها العملاء الاقتصاديون المؤسسات والدول.
بيد أن المؤسسات الصغيرة، هل ستكون أكثر ابتكارًا من المؤسسات الكبيرة؟ وهل المنافسة مؤاتية للابتكارات؟
ونظرًا للسمات البنَّاءة للبيوتكنولوجيات، هل تساعد على ظهور أشكال جديدة من التنظيم المنتج في ظل علاقات التقنية والتنظيم؟!
إن براءة الاختراع هي عنصر سياسة صناعية وأيضًا تشكل في حدِّ ذاتها مرحلة جديدة في تملك السلع، ومن ثَمَّ في العلاقة الفلسفية والأخلاقية للإنسان بهذه السلع.
ولهذا أهمية خاصة في حالة المنتجات والأساليب المتعلقة بمجال ما هو حي، وبحالة البيوتكنولوجيات.
فمن وجهة النظر الاقتصادية، يمكن تلخيص تبرير نظام البراءات على النحو التالي: أنه حل وسط بين الكفاءة الساكنة والحوافز الدينامية، وعلى أقصى تقدير.
ومن ثم تعتبر البراءة في التحليلات الاقتصادية، إما كمخرج للبحث يستخدم لإجراء مقارنات بين بلدان أو مؤسسات، أو لتكوين ثروة في المؤسسة، أو تشكيل إجمالي لرأسمال ثابت.
ومشكلة حماية البيوتكنولوجيات بواسطة البراءة أصبحت مؤخَّرًا في محور المجالات على الساحة الدولية، ذلك لأن البيوتكنولوجيات تزدهر اليوم تلقائيًّا على النطاق الدولي.
فالبيوتكنولوجيات تَرِدُ ضمن تحول عالمي للنظام التقني بالاتصال الوثيق مع تطور العالم الاقتصادي، كما أنها بقدرتها الإشعاعية والإنمائية الهائلة تشكل عاملاً صناعيًّا ضخمًا، كما أنها تدخل في نطاق العلاقات الاجتماعية، وتثير مسائل ذات طابع أخلاقي وفلسفي.
إذًا كيف تترابط العلاقات بين البيوتكنولوجيات، والأزمة الاقتصادية؟ وكيف تندمج في العالم التجاري؟ وأي دور ذلك الذي تلعبه حاليًا ومستقبلاً شركات التكنولوجيا في النسيج صادي؟
وكيف ستدمج المجموعات الاقتصادية هذه التكنولوجيات في معظم استراتيجياتها؟
ختامًا أقول:
في ظل ما سبق ينبغي تحديد وضع تطوير البيوتكنولوجيات في لعبة التفاعلات المعقدة بين العلم والاقتصاد والتقنية والمجتمع؛ سواء على مستوى العلماء والباحثين، أو المؤسسات والدول!
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية