لقد كان تاريخ البشرية مليئاً بالأحداث لدرجة كبيرة.
إن أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان هو مقدرته على إنتاج أدوات العمل واستخدامها في التأثير على الطبيعة. وأدى تطوير هذه المقدرة إلى ظهور كل الملامح الأخرى المميزة للإنسان وإلى خلق المجتمع الإنساني. وقد اجتاز الإنسان بإتقانه لأدوات العمل طريقه الطويل من الحجر المصقول والهراوة إلى الآلة التي يتم تشغيلها ذاتياً، ومن استخدام العضلات إلى الطاقة الذرية. ومن أجل إشباع حاجياته خلق الإنسان أشياء لا تحصى ومواد صناعية، إن الإنسان وقد سجل انتصارات باهرة من أجل السيطرة على الأرض والبحر والجو والثروة المعدنية إنما كان يعبر الطريق إلى الفضاء الخارجي.
إن تطور العلم الاجتماعي يصاحبه بشكل ثابت ازدياد في احتياجات الناس وفي الإمكانيات التي يقدمها العلم والتكنولوجيا من أجل إشباع تلك الاحتياجات. ويكفي أن تقول إن كيلو وات ساعة واحداً من الطاقة الكهربائية يعادل ثماني ساعات من عمل الإنسان.
وفي ضوء ذلك فلربما يبدو من الغريب أنه لا يزال يوجد أناس عديدون في هذا العالم لا يستطيعون أن يشبعوا احتياجاتهم الأولية للغاية. إن نصف سكان العالم على الأقل لا يجدون غذاء كافياً، ويعاني ملايين الناس من المجاعة بكل معنى الكلمة. إن الغذاء الهزيل وظروف المعيشة المفزعة هما مصدر لأمراض كثيرة.
إذن : ما تفسير هذا التعارض بين الإنجازات التكنولوجية للإنسانية وبين الضمانات المادية غير الكافية بشكل مطلق بالنسبة لقسم هام من سكان العالم؟ أحد أمرين فإما أن الإنسانية على شفا استنزاف وسائل المعيشة، وإما أن طبيعة الإنتاج الاجتماعي في ظل الرأسمالية لا تضمن الرفاهية العامة على الرغم من الإمكانيات الطبيعية والتكنولوجية القائمة.
ولطالما تمسك علماء الاجتماع الذين يدافعون عن مصالح الطبقات المستغلة بالإجابة الأولى. وقد صاغ هذا التفسير بتفصيل خاص توماس مالتس الاقتصادي البريطاني في ((مقالته عن قانون السكان)) وتقوم نظريته الأساسية على أنه في الوقت الذي تتزايد فيه وسائل المعيشة في شكل متوالية عددية، فإن السكان يتزايدون في شكل متوالية هندسية، أو إذا ما أردنا التعبير عن ذلك بكلمات أبسط، فإن سكان الكرة الأرضية يتزايدون بأسرع من تزايد وسائل المعيشة بشكل لا يقاس. ومن هذه النظرية خرج مالتس بالنتيجة التي تقول بأن الهوة بين السكان وبين وسائل المعيشة تتسع باضطراد، وأن هذا قانون طبيعي لا يمكن تغييره. والوسيلة الوحيدة في نظره للحد من فاعليته هي تنظيم نمو السكان.
واعتقد مالتس أن العامل إذا ما تبنى أفكاره فإنه سيكون مهيئاً لتحمل المكاره التي لابد من أن تكتنفه بمزيد من الصبر. وسيشعر بدرجة أقل من السخط والغضب ضد الحكومة والطبقات العليا في المجتمع بسبب فقره، وسيكون في جميع الأحوال أقل استعداداً للتمرد والشغب.
ويؤكد المالتسيون الجدد أن الطريق الوحيد للتغلب على الكوارث الاجتماعية هو تخفيض عدد سكان الأرض. ويقترح بعضهم إنقاص عدد السكان.
إن هذه المقترحات تبين بوضوح أن الأفكار المالتسية الجديدة تمثل نظرية عملية زائفة. إن مجرد نظرة عابرة لتاريخ البشرية وللوضع القائم في العالم اليوم كافية لبيان خطأ نظرية مالتس على طول الخط.
إن العيب الرئيس في نظرية مالتس يكمن في أنها تنظر إلى نمو السكان باعتبارها عملية لا تعتمد على التطورات الاجتماعية الأخرى، على الرغم من أنها وثيقة الصلة بالظروف السياسية والاقتصادية. وعيب آخر في هذه النظرية هو سوء تقديرها للموارد الطبيعية. وأخيراً فإن نقيصتها الثالثة هو سوء تقديرها لقدرة الإنسان على معرفة الطبيعة واستحداث وسائل للتأثير عليها.
إن مكننة الزراعة مثلا لشيء هام لا لأنها تزيد من إنتاجية العمل فحسب وإنما لأنها في الغالب شرط لازم لزيادة وسائل المعيشة كذلك. ومن المعروف جيداً أن المحصول الجيد يتطلب وضع البذور في الوقت المناسب، وكلما جمع المحصول مبكراً كانت الخسائر أقل. وكل ذلك يمكن ضمانه إذا ما تم استخدام الماكينات في البذر والحصاد..
إن استخدام آلات الحصاد والدرس مثلاً يقلل الخسائر أكثر من عشر أضعاف. وبدون مكننة لا يمكن أن يوجد تطور واسع النطاق للأراضي البكر. فلا يمكن تنظيف مساحات واسعة من الحشائش باليد.
إن ثلاثة أرباع سطح الأرض تشغله المحيطات والبحار ولا يستفاد من إلا في حدود تافهة. أما الباقي وهو 29% إذا ما أردنا الدقة فلم يستغل بعد بشكل كامل. إن ربع مساحة الأرض جبلي وربع آخر يشله الصقيع بشكل دائم، وسبع مساحتها تشغلها الصحاري، وتسعها يغطيه الجليد. كما أن أراضي المستنقعات الواسعة والأحراش والغابات لا تزرع كذلك.
إن البشرية بعد أن أصبحت تسيطر على معين لا ينضب من الطاقة تنطلق لتغير سطح الأرض. وسيظهر إلى الوجود، بالإضافة إلى الجغرافيا علم لإعادة تشكيل كوكبنا. ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بدقة عن سير الأعمال العظيمة للمستقبل. ولكن من الواضح تماماً أنه سيأتي الوقت الذي ستضع فيه البشرية خطة ضخمة لإعادة تشكيل كوكبنا.
إن التقدم العلمي والتكنولوجي ونمو مصادر الطاقة سيجعل في الإمكان حل مشكلة توفير المياه بطرق مختلفة: عن طريق تنظيم الترسيب حينما وحيثما تكون هناك حاجة إليه، أو بري التربة صناعياً عن طريق مياه الأنهار والأرض والبحار والمحيطات.
يقول مالين في كتابه كم من البشر ستطعم الأرض : ولكي ينظم الترسيب على الأرض يجب أن يتعلم الإنسان التحكم في الطقس على نطاق العالم. وهذه المشكلة الضخمة تحل اليوم شيئاً فشيئاً. فنحن نعرف على سبيل المثال كيف نؤثر على السحب لنسبب نزول الأمطار. وما زال من السابق لأوانه حتى الآن أن نخرج بنتائج خاصة بالمغزى العملي لهذه التجارب. ولكن حقيقة أنها تجري في عدد البلدان يسمح لنا أن نفترض أن حل تلك المشكلة ممكن الحدوث.
أحياناً ما يحقق الإنسان في إعادة تشكيله للطبيعة نتائج سلبية. ويحدث ذلك حينما يصل بشكل تلقائي أو حينما يفكر الإنسان فقط في النتائج العاجلة ولا يستطيع أن يرى النتائج البعيدة على الرغم من أن إجراءاته تنحو نحو غاية محددة.
إن زيادة قدرة البشرية على إطعام نفسها يمكن أن يرتبط بصعود السلم. فكلما صعد الرجل الأعلى زادت معرفته وتفتحت الآفاق أمامه. وفي الحقيقة إذا ما أصبحت كل النباتات على الأرض محاصيل غذاء وعلف، فسوف يتوافر وسائل معيشة تكفي لأكثر من 58 بليون شخص.
وإذا ما استخدمت كل نباتات البحار والمحيطات فسوف يتوافر غذاء يكفي 290 بليون شخص، وإذا ما تم تثبيت كل الطاقة التي تمتصها الأوراق في عملية التمثيل الضوئي، فسوف يكون في مقدور النباتات على الأرض أن تطعم تريليونان وسبعمائة بليون شخص وسوف توفر كل النباتات التي على الأرض وسائل معيشة لحوال 13 تريليون شخص.
إن لهذه الأرقام دلالة نظرية أكثر منها عملية. ولكنها تبرهن بشكل لا يتطرق إليه الشك أن البشرية لن تواجه مشكلة العجز عن توفير الغذاء لنفسها إذا ما عولجت مشاكل الغذاء الهامة في الوقت المناسب وبطريقة منظمة وحلت طبقاً لخطة مقررة من قبل.
((إن الاقتصاديين يقولون إن البشرية مهددة باكتظاظ الأرض بالسكان، وهؤلاء الناس إما أنهم لا يفهمون، أو يشوهون عن قصد، أو يقللون من إمكانيات توفير الطعام للناس، وإذا ما استخدمت منجزات العلم والتكنولوجيا بشكل سليم، فإن إمكانيات إنتاج المواد الغذائية سيكون غير محدود بكل بساطة)).
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية