إنَّ من الحقائق الثابِتَة المُؤلِمة أنَّ أقلَّ من ربع سكان العالم الذين يَعِيشون في الأقطار الصناعيَّة يَستَهلِكون أكثر من أربعة أخماس المَوارِد الطبيعيَّة، كما يُوَلِّدون قرابة ثلاثة أرباع حجم النِّفايَات الناتجة سنويًّا.
وإذا كُنَّا نُرِيد أن نورث الأجيال المستقبلة فُرَصَ الحياة التي نستَمتِع بها، فإنَّ مُمارَستنا ينبَغِي ألاَّ تستمرَّ كما هي الآن على المَدَى البعيد.
يقول مُنَسِّق الأمم المتَّحدة للسنة الدوليَّة للأسرة، هنري سوكالسكي: إنَّ مفهوم الحقوق المُتَبادَلة ما بين الأجيال، والذي كان موضوعًا مركزيًّا للتفكير في مؤتمر ريودي جانيرو - يُشكِّل سِمَة مميِّزة للسنة الدولية للأسرة.
إنَّ المشكلات البيئيَّة تُثِير اهتِمام الباحِثين للحِفاظ على سلامة البيئة الطبيعيَّة الإنسانيَّة في عصرٍ أصبحَتْ معه الأنماط الاستهلاكيَّة، وتطوُّر التقنية، وازدِياد المخلَّفات الصناعية - تُشَكِّل أخطارًا على البيئة بلا حصر.
تقول ماريا هيرتادو - مديرة الحملات والسياسات العالميَّة بالمنظَّمة الدوليَّة لاتِّحادات المستهلِكين -: في الجنوب تُعزَى الآثار السلبيَّة على البيئة إلى الفقر، أمَّا في الشمال فإن تلك الآثار تَنشَأ من الاستِهلاك والنِّفايات، وعلى سبيل المثال فإن التجمُّعات السكَّانيَّة في ألمانيا تستخدم 45% من إجمالي الطاقة في البلاد.
والأسرة مكانٌ أيضًا يَتِمُّ فيه تطوير اتِّجاهات ومَواقِف إيجابيَّة نحو البيئة، تقول مونيكا ليشكا - العضو المُنتَدَب بالمنتدى النمساوي للتعليم البيئي -: الأسرة هي المكان الأوَّل الذي أصبحنا فيه على معرفة بالعالم من حولنا.
وتُشِير الدراسات إلى أنَّ الاهتِمام بالبيئة تُحدِّده نوعيَّةُ وتكرار اتِّصال الطفل بالطبيعة، وأنَّ الأنماط الاستهلاكيَّة مُتَأصِّلة في العادات والتقاليد الثقافيَّة، والعديد منها يَتشكَّل في مرحلة الطفولة.
إنَّ قِيَمًا ومَعايير أوليَّة اكتسبتْ إمَّا باتِّجاه بيئة معادية، أو باتِّجاه بيئة غنيَّة، والتي قد نفهمها إمَّا باحتِرام، أو فقط باستِهلاك ونفايات.
فحتى ظهور النظريَّة الاستهلاكيَّة (نظرية الاستهلاكيَّة الخضراء) كان التفضيل الشخصي، والنوعيَّة، وقابليَّة الاستِمرار والأداء، والقِيَم الماديَّة - تُحَدِّد السِّلَع التي كان الناس يشتَرُونها.
يَقُول هيكو ستيفنس - الخبير بمسائل الاستِهلاك المنزلي -: إنَّ الأسرة المستهلِكة في المجتمعات الثريَّة ربحتْ من أسعار السوق أقلَّ كثيرًا من التكلفة الحقيقية للإنتاج.
ولذا، اعترفَتْ كثيرٌ من الأُسَر بوجود نوعَيْن من التبادليَّة بين القِيَم الاقتصاديَّة والقِيَم البيئيَّة. وعليه، فإن منظَّمات المستهلِكين ينبَغِي أن تُروِّج مبدأ "امتنع لتتمتَّع بالحماية"، من خلال تعليم المستهلِكين كيفيَّة اختِيار المنتجات الخضراء، ومقدار حاجتهم من السِّلَع والخدمات الضرورية.
كما أنَّ منظَّمات المستهلِكين المؤسَّسة أصلاً لتوجيه المستهلِكين في الدُّوَل المتقدِّمة نحو الشراء الأفضل والأكثر أمانًا، وكذلك لحمايتهم من سوء المعامَلة - ينبغي أن تُدخِل البعد البيئي في أعمالها.
وبالفعل فإنَّ بعض هذه المنظَّمات بدأ بفَحْصِ الأثر البيئي للمنتجات، فالمنظَّمة الهولنديَّة للاستِهلاك تقيم السلامة البيئيَّة للمنتجات لأجل التصنيف الدقيق، واستِخدام الطاقة والماء، والمواد المنبعثة والضجيج، والتعبئة والتجميع والمقاييس، ومنظَّمة الاستِهلاك الألمانيَّة تَنشُر صفحة خضراء في مجلَّتها لتُبرِز التطوُّرات والأحدث، كما تنشر صُوَرًا للتغليف المميز ولتغليف النفايات.
بَيْدَ أنَّ جهود منظَّمات الاستِهلاك والبيئة في الدُّوَل النامية محدودة جدًّا، وتُواجِه صعوباتٍ وعَوائِقَ سياسيَّةً واقتصاديَّة وإداريَّة، تُضعِف من برامجها ومشروعاتها وإستراتيجياتها.
إنَّ دراسات عديدة تُؤَكِّد على أنَّه من المُمكِن أن يكون المستهلِك رائدًا في الاستهلاك القابل للنَّماء، إذا تلقَّى دعمًا في العمليَّة التي بموجبها تتكوَّن استِحالة شراء منتَجات ضارَّة بالبيئة.
بَيْدَ أنَّ تَطبِيق آليَّة السُّوق لن يجعل مجتمع الاستِهلاك القابل للنماء أكثر اقترابًا، ومن هنا فإنَّه يترتَّب على الحكومات أن تلعب دورًا منظَّمًا داعِمًا؛ ذلك أنَّ المعلومات الجديدة عن المُشكِلات البيئيَّة الأكثر أهميَّة، وعن كيفيَّة استِطاعة الأفراد المساعدة على حلها، حاسمةٌ في تغيير سلوك المستهلِك.
إن على نظريَّة الاستهلاكيَّة الخضراء أن توضِّح إمكانات إيجادها فَوارِقَ قابلةً للقياس؛ إذ عندما ترى غالبيَّة الناس أعدادًا كبيرة من السيَّارات، ويفكِّرون أولاً بتلوُّث الهواء الذي تسبِّبه لا بالوضع الاجتماعي الذي تُمَثِّله، فإنَّ الأخلاقيَّات البيئيَّة سيكون قد تَمَّ استِيعابها من قِبَل أولئك الناس، خاصَّة أنَّ تعديل أساليب حياة المُواطِنين الأغنياء في الأقطار الصناعيَّة، ينبغي أن يتمَّ دون أن يتطلَّب ذلك تضحيات غير ملائمة.
إذ إنَّه حتى أولئك الذين يُعلِنون قلقهم حول البيئة، قد لا يَختارُون المنتجات الخضراء إذا كانت أكثر تكلفة، أو تعذَّر الحصول عليها بسهولة، أو تتطلَّب تضحيات أو تنازلات. ختامًا أقول:
إنَّه إذا تصرَّف كلُّ شخصٍ كما يَشاء في المَدَى القريب، فإنَّنا جميعًا الخاسِرون على المدى البعيد.
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية