الداعيةُ أو طالبُ العلمِ حينما يكونُ مثقفاً ومُلِمّاً بثقافةِ العصرِ وأساليبِه؛ يكون تأثيرُه عميقاً في النُّفوسِ
ويبدعُ في دعوتِه ودورِه التربويِّ، ويتملَّكُ معرفةَ خيوطِ الألاعيبِ الإعلاميةِ ويُدركُ توازناتِ القوى البشرية التي تُشكِّل نسيجَ المجتمعاتِ الإنسانيةِ، ومِنْ هؤلاءِ الدُّعاةِ الذين جمعوا تلك الصِّفاتِ؛ الشيخُ محمدٌ الغزاليُّ الذي كان بحقٍ فريدُ عصرِه، وُلِدَ الشيخُ عام (١٣٣٦هـ) في قرية تكلا العنب في مركز "إيتاي البارود"، نشأَ الشيخُ في أُسْرةٍ مُتديِّنةٍ تَرِفُّ عليها ظلالُ الإيمانِ، وتُظِلُّها سكينةُ الاطمئنانِ
يُذكرُ في مقدمةِ كتابِهِ (عقيدةِ المُسلمِ) أنَّه: "عاشَ طفولةً عاديَّةً يغلِبُ عليها حبُّه الشَّديدُ للقراءةِ، ونَهمُه العظيمُ للاطِّلاعِ والمعرفةِ، حتى إنَّه كان يقرأُ وهو يتحرَّكُ، ويقرأُ وهو يتناولُ الطعامَ"(١).
وإنَّي في هذا المقالِ أُحاولُ أنْ أمضيَ مع كُتُبِهِ التي صنعتْ للدعوةِ الإسلاميةِ حضوراً قويّاً بفعلِ المُكنةِ الفاعلةِ التي تولَّد مِنها هذا التَّهدِّي في جوانب الدعوة الإسلاميَّةِ،
ولعل الوعظَ المبنيَّ على الوعي؛ هو من أهمِّ أركانِها فبه تُصنعُ الأجيالُ الواعيةُ التي لا يستخفُّها الهَذَرُ ولا تقعُدُ بها الدروشةُ عن أحابيلِ المكر المتواري خَلْفَ شرعنةِ العقلِ وترجيحه على النقلِ، و الاستمدادِ من عَكَرةِ (٢)الفكر الغربي.
في أدواءِ الحضارةِ الماديَّةِ لا محيصَ عن دليلٍ ، يوجِّه الركبَ المُسلمَ حتى لا تكبو خطواتُه، ويتعثَّر في مسارِه
وهذا مسلكُ مُؤلَّفاتِ الغزاليِّ مع القارئ حين يرتكز عليها ويُفتِّشُ في خبايا تِلكمُ الروائعِ، ففي تفسير القرآن ذهب الشيخ إلى الطريقة الموضوعيَّة، فحمل عنوان الكتاب نحو تفسير موضوعي للقرآن، وهو يشرح طريقته في هذا التفسير قائلاً عنه: " فهو يتناول السورة كُلَّها يحاول رسم (صورة شمسيّة) لها تتناول أوّلَها وآخِرَها، وتتعرَّف على الروابطِ الخفيَّةِ التي تشُدُّها كلها، وتجعل أولها تمهيداً لآخرها، وآخرَها تصديقاً لأوَّلِها"(٣)
يتميز الخطابُ الدعويُّ للشيخِ بأسلوبِ الأديبِ المُتَفنِّن والذي يُضفي على كتاباتِه مِسحةً أدبية رائقةً تقطُر منها قطراتٌ تُذيبُ جفاءَ التوعُّرِ اللَّفظيِّ ، فقلمُه لا شكَّ سيَّالٌ
رائقٌ وفيه حميمية الداعية المُشفق على قومه من عوادي الدهر وآفاتِ الهوى، ومسالِك الغِيِّ والانحدارِ الأخلاقيِّ، وإن كانتْ النُّخبويةُ لها نصيبٌ من تلك الكتابات، فلا مَطعنَ فيها لذاتِها فإنّ مجالَ الفكرِ واسعٌ ومتفاوتٌ ، ويُحتِّم على الداعية مُصاولةَ الأفكار الأخرى وهذه الأفكار تترسّم خطى الفلسفة في نِقاشاتِها ومُساجلاتِها مع أصحاب الفكر الإسلامي، وهذه التي يدعو الداعيةُ إلى مسايرتِها على نفس الأساسِ الفلسفيِّ الذي تُناوش منه
وإن لم يكن هذا ظاهراً جليّاً عند الغزالي وهو عند آخرين يستوعبُ خطابَهم الفكريَّ كاملاً.
الجانب العاطفي من الإسلام هذا عنوان كتابِه وهو بحث في الخُلُقِ والسُّلوك وتهذيبِ النَّفس، يحملُ من الرقائق والمواعظ الشيءُ المُختلفُ، فهو عندما يتناول حِكم ابن عطاء الله السكندري تلحظُ فرادةً في الشرح تُبصِّر القارئ بالحِكم العطائية، فهاكم شرحَ أحدِ تلك الحِكمِ يقولُ ابنُ عطاءِ اللهِ السَّكندري: "ادفن وجودَك في أرضِ الخمول فما نبتَ مما لم يُدفنْ لا يتمُّ نتاجه"
يقول في شرحِها: " هذه الكلمةُ أفضلُ توجيهٍ لمن يريدون الظهور على عجل، ومَنْ يتوهمون أنّ نصيباً قليلاً من المعرفة والخبرة كافٍ في الترشح لقيادة الجماهير، والصدارة بين الناس، وهؤلاء لا حصرَ لهم، إن الإمامة في آفاق الدنيا أو في آفاق الدين يتطلَّبُ صبرَ السنين، و تغضين الجبين"(٤)
لقد فتح الشيخُ في كتابه (فقه السيرة) لِقرَّاء السيرة النبوية فتحاً مبيناً استجلى فيها غوامضَ النُّصوصِ واستبانَ بها القارئُ موضعَ العِبرةِ ونَصاعةَ الحُجَّه-في عالمٍ تتلاطمُ أمواجُ الشُّبهاتِ والفِتنِ في بحرِه اللُّجيِّ-من هذا المَعِينِ الفيَّاض الصافي، لذلك آنسَ المُستبصِرُ القدرةَ الفقهيَّة والمَلَكةَ البيانية في صوغ الشكل والمضمون الموافق لمبادئ الإسلام العامة وقواعده الكُبرى، فهو يستبعدُ بعض الأحاديث الصحيحة التي لا توافق قطعياتِ الشريعةِ ومهماتِها، ويُقرَّب بعض الآثار وإنْ كانت ضعيفة، وليس هذا عن هوى وتحكُّم ولكن عن فقه وفهم لروح الشريعة الإسلاميةِ ومقاصِدِها، يقول في ذلك: "ولستُ بِدْعاً في تِلك الخُطَّة التي اخترتُها؛ فإنَّ أغلبَ العُلماءِ جرى على مِثْلِها في مواجهة المرويات الضعيفة والصحيحة على سواء"(٥)
ولولا خشيةُ التطويلِ المُملِ لما توقَّف الحبل عن استعراض باقي المُؤلَّفاتِ لفائدتها وطرافتها، فلعلنا نُلقي عصا التَّسْيارِ هاهنا.
سالم صعيكر البلوي
——————-
(١) عقيدة المسلم، محمد الغزالي، دار القلم، ص٩
(٢) لسان العرب، ابن منظور المجلد العاشر، دار صادر، ص٢٤٠ قال: و العَكَرُ: دُرْدِيُّ كلِّ شيء.
(٣) نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، دار الشروق ص٥
(٤) الجانب العاطفي من الإسلام، محمد الغزالي، دار القلم ص١١٦
(٥) فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الدعوة، ص١٢