كنت أوضحت في مقال سابق بعنوان " هل تنتحر ايران أم تجلس على الطاولة؟ " ما اذا كان صنّاع القرار في طهران سيواصلون رفضهم للتفاوض مع الجانب الأمريكي ودول 5+1 قبل رفع العقوبات الامريكية المشددة على ايران. كما أوضحت خلال فترة سلسلة العقوبات الاقتصادية نبض الخطاب الاعلامي للجانب الايراني الذي كان يزداد حدة وغضبا مع كل اعلان امريكي جديد عن عقوبات اقتصادية جديدة اذ كانت تصريحات الايرانيين تتسم بالارتباك والرفض التام لمناشدات حلفاء أمريكا بوقف تخصيب اليورانيوم والتفاوض مجددا حول الاتفاق النووي. وفي غضون ذلك اتسمت التصريحات الاعلامية في ايران بلهجة التهديد والوعيد والموت لأمريكا والمجتمع الدولي بأسره. وكانت ترفض مطالب الدول الإقليمية لتغيير سلوكها المعادي تجاه المنطقة والعالم لكي تنتقل بعد ذلك الى مسار اقامة علاقات سياسية جيدة تقوم على مبادئ حسن الجوار واحترام سيادة الدول, ومراعاة مبادئ القانون الدولي, وعدم التدخل في الشئون الداخلية لجميع دول الإقليم من خلال التوقف عن دعم وايواء وتسليح وتحريض الأحزاب والجماعات الخارجة عن القانون والمليشيات الموالية لطهران في سوريا واليمن ولبنان ما يسمح لإيران بالخروج تدريجيا من عزلتها الدولية والإقليمية لتصبح عضوا نافعا في الأسرة الدولية.
ويقول محللون سياسيون أن عزلة ايران عن المجتمع الدولي جاءت نتيجة لسياسة النظام الحاكم التي تقوم على استعراض القوة وزعزعة الاستقرار واشعال الحرائق في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وافغانستان فضلا عن محاولات التأثير على الانتخابات في دول أوروبية كما حدث مؤخرا في بلجيكا حينما كشفت مصادر اعلامية عن القاء القبض على دبلوماسي ايراني والحكم عليه بالسجن عشرين سنة بعد ادانته بالتخطيط لهجوم في فرنسا ضد معارضين لنظام طهران في عام 2018م.
وكنت أراهن آنذاك بأن ايران ستعيد النظر سريعا في خارطة حساباتها وسياساتها تجاه المنطقة والعالم, بل وراهنت على أنها ستقبل يوما بالجلوس على طاولة التفاوض وتقدم المزيد من التنازلات للبحث عن مخرج آمن يتيح لها الخلاص من مأزق العقوبات الاقتصادية الخانقة, ويسمح لها بحلحلة قيود العزلة المفروضة عليها من دول الإقليم العربي والمجتمع الاسلامي.
وها نحن اليوم نرى ايران تجلس على طاولتين وليس طاولة واحدة فحسب, احداهما في فينا مع الجانب الأوروبي لبحث موضوع الاتفاق النووي مع أمريكا, والطاولة الثانية في بغداد مع الجانب السعودي لبحث سبل وقف الدعم الايراني لأذرعها في المنطقة وأيضا لمناقشة قضايا تتعلق بكيفية عودة ايران الى مسار العلاقات الطبيعية مع المجتمع الخليجي والعربي من خلال اقامة علاقات سياسية واقتصادية تتفق مع مبادئ القانون الدولي وتنسجم مع ميثاق منظمة التعاون الاسلامي.
تجلس ايران اليوم على طاولتي المفاوضات بهدف التخلص من تبعات العقوبات الدولية وعواقب العزلة الإقليمية التي جعلت ايران تسعى لتغيير الخط السياسي المتشدد تجاه المنطقة العربية والساحة الدولية عموما وهو الخط الذي أدّى الى غليان الشارع الايراني نتيجة لتدهور الحالة الاقتصادية في البلاد بسبب استمرار النظام في ضخ مليارات الدولارات في برنامج المفاعل النووي وتسليح أذرعها العسكرية على حساب مشروعات التنمية المستدامة ورفع مستوى المعيشة للمواطن الايراني المغلوب على أمره.
وكما ساهمت المقاطعة الرباعية في عودة قطر الطوعية الى البيت الخليجي بعد قطيعة دامت اربع سنوات تقريبا, فان ايران تحاول أن تعود اليوم كذلك عبر طاولة المفاوضات مع المملكة العربية السعودية أملا في تطبيع العلاقات باعتبار أن السعودية هي الدولة ذات الثقل السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط, وذات الثقل الاقتصادي على الصعيد الدولي نظرا لأنها أحد أهم أعضاء مجموعة العشرين الاقتصادية.
ومثلما توقعت في المقال السابق بأن ايران ستعود يوما للجلوس على طاولة التفاوض بشأن برنامجها النووي المثير للجدل, وبرنامجها المتعلق بالصواريخ الباليستية, وكذلك التفاوض حول قضايا تتعلق بأمن المياه الدولية والتحرش بالسفن التجارية وناقلات النفط التي تعبر مضيق هرمز كما أوضحت في مقال سابق بعنوان " التحرش الايراني بناقلات النفط".
وكمراقب ومحلل سياسي للشأن الدولي والإقليمي, فان ايران لم تعد تهدد - خلال هذه الفترة على الأقل- الملاحة البحرية في الخليج مثلما كان يحدث سابقا ابان عهد الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب, كما ولم نسمع عن قيام زوارق البحرية الايرانية بالتحرش بالسفن التجارية في الخليج ناهيك عن تخفيف لهجة الخطاب الاعلامي لقيادات الحرس الثوري في طهران.
يأتي هذا التراجع في طبيعة المواقف الايرانية التي اعلنت مرارا تحدي الارادة الدولية ورفض مناشدات المجتمع الدولي المطالبة بوقف تخصيب اليورانيوم وعدم التعرض للسفن في المياه الدولية وقبول التفاوض حول اعادة صياغة الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الامريكية, انما يأتي في هذه المرحلة لأجل ارضاء الادارة الامريكية الجديدة في محاولة أخيرة لدفعها باتجاه العمل على رفع أو على الأقل تخفيف العقوبات الاقتصادية والافراج عن الأرصدة المالية المجمدة في البنوك الامريكية والأوروبية. ومن ناحية أخرى تسعى ايران لإيجاد علاقات سياسية واقتصادية مع دول الخليج المجاورة.
وعلى الصعيد الدبلوماسي كان وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف رحب بتصريح الأمير محمد بن سلمان خلال مقابلة الأخير مع التلفزيون السعودي واصفا خطاب ولي العهد السعودي بأنه سيساعد كثيرا في خفض التوتر في المنطقة. فهذا الترحيب يبعث رسالة واضحة بأن ايران تريد التراجع عن مواقفها المتشددة والعودة الى الأسرة الدولية باقل الخسائر. كما زار ظريف مسقط مؤخرا لكي يوضح لدول الخليج العربي بأن ايران يمكنها المساهمة في حل الأزمة اليمنية من خلال الضغط على وكلائها الحوثيين بقبول وقف اطلاق النار وفقا لمبادرة الرياض التي تنص على ضرورة أن يجلس الحوثيون على طاولة التفاوض مع الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي لأجل تغليب مصلحة اليمن على المصالح الحزبية الضيقة. تأتي هذه التحركات في المشهد الايراني تمهيدا لإمكانية ايجاد توافق سياسي أملا في الحصول على علاقات طيبة مع دول الخليج العربي, وذلك في محاولة أخيرة لإنقاذ الحالة الاقتصادية المتدهورة ورفع المعاناة اليومية عن كاهل المواطن الايراني الذي دفع ثمن العقوبات والعزلة الدولية على نظام بلاده.
حدثت كل هذه التغيرات في المواقف الايرانية بعد خطاب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وهو الخطاب الذي كانت له اصداء ترحيبية واسعة ليس في ايران فحسب وانما في روسيا وكثير من دول العالم أيضا. فهذا الأمير الشاب كانت قد ظهرت عليه منذ توليه مهام ولاية العهد علامات الحنكة السياسية والخبرة الاقتصادية, وبالتالي فالأمير يتمتع بشخصية سياسية مؤهلة لحل كثير من قضايا العالم التي لا تزال عالقة وعصية على الحل. فهو مُهندس رؤية السعودية 2030 ومُؤسس مدينة نيوم الذكية, ومُصمّم مبادرتي المملكة الخضراء والشرق الأوسط الأخضر, والخبير بالشأن الدولي, والعارف بتفاصيل الشأن الاقتصادي في بلاده وفي العالم كذلك. كيف لا وهو ولي عهد الملك سلمان وحفيد المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه, الذي استطاع أن يجعل من الضعف قوة, ومن الخوف أمنا وسلاما, ومن الحلم أملا وحقيقة, ومن الفرقة والشتات اعتصاما واتحادا, ومن الكساد ازدهارا ونماء ينعم به الشعب السعودي الأبي وكل شعوب العالم الاسلامي!. ولهذا أرى أننا بحاجة الى " محمد بن سلمان" آخر في هيئة الأمم المتحدة, وفي كل دولة من دول العالم.