في البَدءِ، لا بدَّ من تعريفِ المثقفِ، فالمثقفُ
اصطلاحاً: هي كلمةٌ تُطلقُ على فردٍ من شريحةٍ مُعيَّنةٍ يمارسُ عملاً عقلياً، إذاً فالعملُ البدنيُّ ليس من الثقافةِ في شيءٍ كما هو تعريفُ علي شريعتي الآنفُ الذكرِ
وإن كان هناك بعضُ التقاطعِ في العملِ البدنيِّ مع الثقافي في بعضِ الوجوهِ فعاملُ الأرابيسك يقومُ بعملٍ بدني ولكنَّه فنيٌّ وثقافيٌّ في عمليةِ الفسيفساء وطريقةِ استخدامِ الزوايا والخيوطِ والتي تكونُ مُعقَّدةً وتحتاجُ إلى تركيزٍ ذهنيٍ وروحٍ فنيةٍ موحيةٍ.
وطُرحتْ قيمةُ المثقفِ في أوروبا، بعد نهاية ما يُسمى بالقرون الوسطى، فمنذُ القرنِ السابعِ عشرَ الميلاديِّ ظهرتْ شريحةُ المثقفينَ، ثُمَّ تسللتْ إلى دولِ آسيا وأفريقيا وأمريكا في القرنِ التاسعِ عشرَ الميلاديِّ، وكان لظهورِ هذه الشريحةِ قصص متشعبة من الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية والعلم والذي كانت تجري لأصحاب العلم فيه محاكماتٌ مثلُ محاكمةِ جاليليو جاليلي الفيزيائي الإيطالي بتهمةِ الهرطقةِ وكذلكَ محاكمةِ كوبرنيكوس أحد علماء الفلك، وهذه أحد التعريفات الخاصة للمثقف في ظرف تاريخي معين لاتنطبق على ما يتمُّ استخدامُه اليوم لهذا المصطلح بالضرورة.
إذاً فالعملُ العقليُّ، هو الميزةُ التي يتميزُ بها المثقفُ عن غيرِه من طبقاتِ المجتمعِ، فربّما يكون هناك أفرادٌ يقومون بعمليةٍ أكاديميةٍ أو تعليميةٍ في نطاقٍ محدودٍ بدونِ أن يمارسوا دورَ العملِ العقليِّ للمثقفِ فهولاءِ يكون عملُهم أقربَ إلى التكرارِ والعادةِ منه إلى الحيويةِ والاستمرارِ والتكثيف الذهني والنشاط المتواصل الذي يؤدي إلى قلقٍ وهاجسٍ للباحثِ عن المعرفةِ وبالتالي تلازِمُهُ صفةُ المثقفِ رغماً عنه.
وللمثقفِ مزايا يتميزُ فيها عن غيرِه من أهمِّ هذه المزايا أنَّ المثقفَ يستوعبُ القضايا المهمةَ في مجتمعهِ أمّا مَنْ تمرُّ به القضايا الكبرى ولا يستوعبُها فهذا ليس مثقفاً، والميزةُ الأخرى وضوحُ الرؤية والقرارُ العقلاني وهما مهمَّانِ جداً في تحديدِ المثقفِ وتصنيفِه
بالإضافة مزاولة العمل الفكري الذي يُحَدِّدُ ماهيةَ المثقف.
المثقفُ مع المجتمعِ هل هو مندمجٌ؟ أم هناك تنافرٌ بينه وبين محيطه؟ سنناقش معاً هذه الإشكاليةَ في السطور القادمة.
يعاني المثقف من غربة وعُزلة في بعضِ الظروفِ وفي بعضِ المجتمعاتِ ويعودُ ذلك إلى عدةِ عواملَ تكونُ أحياناً من المثقف وأحيانا من المحيطِ المجتمعيِّ
وعندما نُفصِّلُ في الحالةِ الثقافيةِ نجدُ أنَّ المُثقفَ عندما يتعاملُ مع الوعاءِ الثقافيِّ فإنّه يرتقي به إلى سماواتٍ معرفيةٍ تجعلُ هناك هوّةً سحيقةً بينه وبين المجتمع فعلى المثقفِ أن يكونَ متوازناً وواقعياً مع هذه الحالة وأن يقومَ بردمِ الهوّةِ وهي أنّه لا يمكنُ مقارنةَ الكتب وهي الأوعية الثقافية بالعقول الأخرى!
كما لا يُمْكِنُ مقارنة الأفكار السامية بالأحداث اليومية والتفاصيل المعيشية، فأعتقدُ أنَّ حالةَ الاغترابِ الثقافيِّ نشأتْ من هذه المتناقضاتِ والتي هي إنْ عُرِفتْ وعولِجتْ فهي حالةٌ صحيةٌ تجري في مجراها الطبيعي، أمّا إنْ تجاهلَها المثقفُ أصبحتْ كابوساً يهددُ الترابطَ بينه وبين محيطه، وبالتالي تؤثُّرُ على عطائِه و يبدأُ يتقوقعُ داخلَ نفسِه فيما يُسمى بمرضِ الحجزِ الداخليِّ الذي يكونُ فيه المريضُ يعي ماحوله ولكن لا يستطيعُ التعبيرَ عمَّا بداخله إلا بصعوبةٍ بالغةٍ وعن طريقِ أجهزةٍ عاليةِ الدقة، فإقامةُ الجسورِ ضروريةٌ لتفعيلِ دورِ المثقف في مجتمعه، والتركيزُ على المشتركات هي أحد الحلول لإزالة الغربة، وكسر الجمود، في حالة غربة المثقف.
يستطيع المثقفُ نبذَ الغربةِ الثقافيةِ في التعرُّفِ على مجالاتٍ يقوم به أفراد في المجتمع يُعدُّون من المثقفين وإن لم يزاولوا عملاً ذهنياً أو فكرياً كما تمت الإشارةُ سابقاً إليه في عمل بعض النَّساجين وأصحاب الحِرف اليدوية.
رُبَّما يكون الجانبُ النقدي لدى المثقف هو الذي يقطع الصلةَ بالمُكَوِّنِ العامِّ؛ لأنّ النقدَ الذي لا يتوقفُ هو عمل المثقف المتواصل مع مجتمعه، ولأنه يحاول دائماً أن يُصلح الأوضاع الاجتماعية فالبتالي الاعتدال في النقد وإرسال رسائل يُفهم من خلالها النقد بطريقة غير مباشرة أنجع الأساليب.
وفي النِّهاية على المثقف أن يكون واقعياً لا نصوصياً فالخبرةُ الحياتيةُ تتجسدُ في حل معضلات لا حصر لها فالمزج بين النصِّ والمعاملةِ اليوميةِ تُعجِّل التواصل في منتصف الطريق بدلاً من قطع مسافات طويلة للوصول.
سالم صعيكر البلوي
ماجستير إدارة أعمال