تختلف ثقافة التسول في دول العالم باختلاف طرق الحياة العامة وتباين التقاليد والقيم وأنماط الحياة الاجتماعية التي تميز كل مجتمع عن الآخر بحيث ينسجم أسلوب التسول مع منظومة قيم اجتماعية واقتصادية ودينية تحث على توفير فرص العمل للعاطلين والمشردين لكي لا ينتهي بهم الحال الى أن يتخذوا من التسول مهنة دائمة لهم أو وظيفة لجني المال بالقفز على قوانين الكسب المشروع وفقا لمعايير العدالة والمنافسة والمفاضلة, وطبقا لمبدأ الجدارة والكفاءة في أولوية الحصول على الوظيفة المهنية وبالتالي تحقيق كسب المال بطريقة مشروعة. غير أن مبادئ الأديان تحث الطبقة الميسورة على مساعدة الفقراء المحتاجين بما يسهم في تقليص الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء بالتعاون والتكافل بين أفراد المجتمعات الإنسانية، فضلا عن مراعاة مبادئ القانون لحقوق الفقراء والمساكين غير القادرين على العمل لأسباب صحية أو لظروف أخرى تتعلق بالكوارث والنزاعات والحروب الأهلية وشح الموارد الاقتصادية في دول كثيرة من العالم.
ولكن مشكلة التسول التي تواجه دول العالم اليوم هي أن متسولين جدد دخلوا هذا الميدان رغم قدرتهم على بذل الجهد البدني والذهني باعتبار أنهم مؤهلين صحيا للعمل وكسب الرزق دون الاتكال على غيرهم من المتعاطفين مع الفقراء وذوي الحاجات. لقد استغلت تلك الفئة ثقافة المجتمعات والأنظمة الحقوقية المتعاطفة مع الفقراء فدخلت أعداد كثيرة من المتسولين تحت غطاء تعاليم الأديان التي تنادي بمراعاة حقوق الفقراء والمعسرين ما جعلهم ينخرطون في مهنة التسول لكسب المال بطرق عديدة تعتمد على التحايل لاستعطاف الناس ولفت انتباههم لحالات إنسانية مفتعلة وليست حقيقية. وبما أن الانسان بطبعه مخلوق عاطفي، فانه يسارع بشكل عفوي لمد يد العون للمحتاجين انطلاقا من تعاليم دينه التي تحث على تقديم المساعدة للفقراء المحتاجين.
لقد ابتكرت شريحة واسعة من المتسولين في كل أنحاء العالم طرق جذب عاطفية مؤثرة جدا الى الحد الذي لا يملك معه الانسان البسيط الا أن يقدم شيئا مما تجود به نفسه لهؤلاء المتسولين المحترفين في فن الوصول الى النقود. وهنا أتذكر عندما كنت شابا في مقتبل العمر، وحينما توقفت عند احدى محطات الخدمة على الطريق لتعبئة سيارتي بالوقود، فاذا برجل يبدو في منتصف العمر، يتقدم نحوي بخطى متثاقلة، ويمد يده ليسألني بعض المال، ويمسك بيده الأخرى وثيقة أشبه بمخطوطة قديمة يقول إنها تثبت استحقاقه لطلب المساعدة من الناس. فقلت له يا سيدي لا داع لهذا الصك، فمظهرك لا يحتاج لوثيقة من محكمة. ولذلك أشفقت عليه وتعاطفت معه فأخرجت محفظة نقودي لأعطيه بعض المال. ولما لم أجد في المحفظة سوى ورقة واحدة من فئة 500 ريال، قلت له معتذرا بلغة عامية: " والله يا عم ما معي الا 500 ريال، ما عندي فكة", فقال لي باللهجة المحلية: " أفا عليك وانا اخوك، عندي فكة 500 ريال، هات واصرف لك".
لقد ساورني الشك حينما أخرج من جيبه كيسا ممتلئا بالتبرعات النقدية ليصرف ما لدي من نقود. تساءلت مندهشا كيف لرجل فقير أن يتوفر لديه كل هذا المبلغ في وقت قصير جدا خلال تواجده عند محطة الوقود!
ومن طرق استعطاف الناس الأخرى، فقد تجد امرة تجلس على جانب الطريق تحت أشعة الشمس الحارقة والى جانبها طفل رضيع يرى الناس في عينيه صور البؤس والحرمان والشقاء. لقد تم توظيف هذا الرضيع الصغير في هذا المشهد الإنساني كوسيلة استعطافية لأجل أن يعطينا المتسول انطباعا مؤثرا في النفس تجاه الحالة البائسة وبالتالي تنشيط ضمير المتبرع لبذل المال احسانا وشفقة بحالة الطفولة والأمومة. ولمواكبة مسيرة التطور التقني والرقمي، نلاحظ أن فئة أخرى دخلت كذلك مهنة التسول المريح من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
تلك بعض المشاهدات والمعطيات لثقافة التسول في منطقتنا العربية غير أن المتسولين في الدول الغربية يختلفون عن نظرائهم المتسولين في البلاد العربية من حيث طرق الاستعطاف وأساليب التسول، اذ نجد أن متسولي الدول الأوروبية عموما لا يمدوا أيديهم لطلب المال وانما يقدمون للمتسوقين والمتنزهين نوعا من الفنون كالرسم على الرصيف أو عزف نوتة موسيقية مؤثرة ومعبرة عن حالة حزن شديد بسبب الفقر والجوع والحرمان. ولذلك فهم يتواجدون على أرصفة الطرق المزدحمة بالمشاة من السائحين الأجانب. ومن خلال ما يقدمه المتسول لجمهوره، يختلج النفس نوعا من التأثر العاطفي الشديد مع المتسول الفنان، فيرمي السائح بعضا من النقود المعدنية في قبعة المتسول الملقاة بجانبه لغرض إيهام المتبرعين بأنه سيكتفي فقط بما تستوعبه القبعة من نقود في حين لاحظت أحدهم يفرغها في كل مرة تمتلئ ويعيد وضعها أمام السواح الأجانب..
هذه الوسيلة عند المتسول الغربي تتضمن رسالة مفادها أنه لا يتسول المال من غير مقابل وانما يطلبه نظير ما يقدمه للناس من أعمال فنية كالرسم على الجدران أو العزف على الكمان، وبالتالي يرى الراغبون في المساعدة بأنه يقبض المال بجهده وعرق جبينه، وبطريقة تثير اعجاب المتعاطفين مع المتسول الذكي ولا تتعارض مع أحكام القانون.
أما بالنسبة لمتسولي البلدان العربية فانهم لا يقدمون لنا سوى ايحاءات وسيناريوهات من مشاهد البؤس والشقاء والمآسي لإيمانهم بأن أفراد المجتمع الإسلامي أكثر كرما وسخاء لما يتميزون به من قوة العاطفة وسرعة الإغاثة والشفقة على الفقير. وبالتالي فهم يعلمون أن أفراد المجتمع المسلم لا يهمهم سوى كسب الأجر والثواب مقابل بذلهم الصدقات للفقراء والمساكين التزاما بتعاليم الدين الإسلامي تجاه الفقراء.
ونظرا لتزايد أعداد المتسولين عاما بعد عام، فإنني أرى لو أن يتم انشاء إدارة حكومية تعنى بشئون المتسولين وتتولى تنظيم عمليات التسول المشروع من خلال القيام بطباعة وتوزيع بطاقة خضراء للمتسول المواطن وأخرى بيضاء للمتسول الأجنبي بعد استيفاء الشروط المؤهلة لاستحقاق التسول في المساجد والأسواق والأماكن العامة الأخرى. فالمتسول القادر على الحركة والعطاء لا بد وأن يعمل ويقدم خدمة إنسانية كأن يقوم بتنظيف زجاج السيارات عند إشارات المرور ومواقف السيارات أو حمل أغراض التسوق وتوصيلها لمواقف السيارات وغير ذلك من الخدمات الانسانية مثل مساعدة كبار السن في عبور الطريق أو صعود السلالم الأمر الذي يسهم في الحد من ظاهرة التسول دون بذل جهد مقابل المال الذي يعطى له.