(راحوا الطيبين) جملة تحمل خلف طياتها سحر الماضي الجميل، وعبق التاريخ الرزين، ورائحة الزمن الفتّان، وجدران كساها الأصالة والبراءة، وجلسات الحكمة وضرب الأمثال، نعم هي تجذبنا إلى الذكريات التي عشناها، ودفء المنظر والحنين إلى الماضي، والتوق إلى عودته ..
(راحوا الطيبين) جملة سمعناها كثيرا، ونرددها فيما بيننا دائما، هي ليست كغيرها من الجمل، لكنها تجلدت وأخذت لها موقعا فسيحا بين كلماتنا وعباراتنا، حتى صنعنا منها رسائل وعبارات ممزوجة بالسخرية في حاضرنا، والشوق إلى العالم السحري القديم، والبحث عن المفقود ونقاء النفس وصفاء القلب، والحياة البسيطة التي لا تكلف فيها ولا اصطناع، والمساحات البيضاء النقية، واتحاد القرية ككتلة واحدة، فقد اضمحلت واندثرت هذه القيم الجميلة، والمعاني الحلوة، ولَم يبق إلا الماديات بلا روح ولا طعم ولا رائحة، كالمشلول موجود بلحمه وشحمه، دون الاستطاعة والاستفادة من جماليات الحياة (إلا من رحم ربي) ..
(راحوا الطيبين) عبارة تطلق على كل شيء مرّ قديما، والحنين والاشتياق للزمن الجميل، حينما نستذكر شغف البساطة، وعندما كانت الدرّاجة الصغيرة التي نجوب بها الأزقة تسير بين المنازل والشوارع، وأنواعا من الحلوى التي تقُدم مع القهوة في وقت العصرية، وجلسات الفجر والاستمتاع فيها، حيث المائدة الواحدة، والصحن الواحد الذي يكفي الجميع، والزيارات اليومية، والأطباق المتبادلة بين الجيران، والبيوت المسدلة المفتوحة يدخلون فيها متى شاؤوا ولا يخاف أحد أحدا، والمرمى الذي كان يقام بالأحذية، والكرة التي كانت تصنع من الأقمشة، والتلفاز ببرامجه البسيطة النافعة، فالحنين إلى الماضي طبيعة بشرية، خاصة بعد أن تغير الحال وتبدلت الأحوال، ففقدنا بعضا من أصالتنا، واندثر جزء من تقاليدنا وقيمنا، واختلفت روابط الجيرة والصداقة، نعم إنها الأنفس التي تغيرت، بعد أن أعمتها الحضارة والتطور الهائل، في المقابل دعونا لا نبخس حق هذا الزمن الجميل، عصر عُرف بالسرعة، ولادة جيل صاعد، ملأ أرجاؤه التقنية الحديثة وحضارة وصل صداها شرق الأرض وغربها، بعد أن كانت أحلاما وردية، وكوابيس مخيفة، وأمنيات الماضون ..
ومن سنة الله الكونية في الحياة أنها تتغير بين الحين والآخر، وغير ثابتة على نسق معين أبداً، ومع مرور السنوات نلاحظ أن أسلوب الحياة انقلب رأسا على عقب، وأن الأشياء التي كانت بديهية أصبحت في الوقت الحاضر ضربا من الجنون والمحال والعكس، وسبب هذا التغير والاختلاف تطور الحضارة الإنسانية وتغير أنماط المعيشة فيها، وأدى هذا التغير إلى تغيرات كبيرة في حياة الناس، والتأثير على العادات والتقاليد والقيم القديمة، والعجيب أنه إذا سئل أحد عن أسباب هذا التغير الغريب، يجيب بأن ذلك من صنع الزمن، وقد أجاب الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا
ومـا لـزمـاننا عيب سـوانا
أين أنت أيها الزمن الذي كان نقيا كالغمام، طاهرا كالندى، لا تحمل الأعباء، ولا تسكنك الهموم، عُد لنا طاهرا كما كنت، فلسنا بحاجة إلى عالم لا مكان فيه للفقراء، ولا متسع فيه للبسطاء، أيها الزمن الماضي ألا تكرمنا وتختلط بحاضرنا الغرّاء، وتمتزج قيمك بعالمنا البراق ..؟
وفي آخر السطر ..
في كل زمن له أهله الطيبون، والطيبون لم يذهبوا، لكن تبدلت وتغيرت القيم ..