من واقع خبرتي في القطاع العقاري وتحديدا في مجال ادارة الأملاك وتسويق العروض العقارية، وعلى ضوء تجربتي كذلك في بناء الوحدات السكنية، وفي ظل ارتفاع أسعار مواد البناء وأسعار الأراضي وما يترتب على ذلك من اتجاه تصاعدي ملحوظ في أسعار الوحدات السكنية، فاني لا أشاهد أي أفق لحل أزمة السكن التي تعاني منها شريحة اجتماعية كبيرة طالما استند السوق العقاري فقط على قاعدة العرض والطلب. هذه القاعدة هي الكارثة التي قفزت بأسعار القطاع العقاري الى مستويات صعبة المنال على جيل جديد ينتظر حلولا عملية لا وعودا واهية. ولا يزال هذا الجيل يبحث عن السكن الجاهز أو يسعى لتذليل العقبات أمام امتلاك قطعة الأرض وطلب القرض ومن ثم الشروع في البناء.
من هنا ذكرت سابقا ولا زلت أقول لكل من يعتزم القيام ببناء سكن خاص ولا يملك الماما تاما ودراية كافية، أن هذه التجربة ستكون محفوفة بالمتاعب والمخاطر كما مر بي من متاعب ومصاعب خلال التجربة الأولى للبناء والتي كانت دافعا لكتابة أول مقال صحفي لي بعنوان " العامل ورب العمل... بين أزمة الثقة وغياب التنظيم"، وهو المقال الذي يمثل نقطة الانطلاق في مجال الكتابة الصحفية. ولذلك أكرر بأن فكرة بناء مشروع سكن خاص ليست كما كنت أظن ويظن آخرون بأنها مجرد تجربة بسيطة خالية من الهموم والعثرات والنكبات. لقد كانت تجربة بغيضة ومؤلمة جدا الى حد استرجاع الذاكرة لتجربة الجلوس على كرسي طبيب الأسنان. وعموما أرى أنه ينبغي على الراغبين في خوض التجربة إدراك أن تجربة البناء بكل تفاصيلها ليست كمثل وضع ترتيبات معينة للذهاب في نزهة برية أو رحلة سياحية لقضاء شهر عسل مثلا، اذ لابد من شد الحزام والرجوع دائما الى ذوي الخبرة والاختصاص لطلب المشورة والرأي السديد في كل مرحلة من مراحل البناء الثلاث، والا فان إشارات الخلل هندسيا وانشائيا وفنيا ستظهر حتما في مقبل الأيام والشهور على شكل تشققات أو تصدعات وتسربات في شبكة تمديد المياه. كما لابد لكل من تراوده فكرة البناء أن يتأكد بأن مبلغ السيولة النقدية لديه سيكفي لتغطية كل متطلبات المشروع حتى النهاية، وأن يفهم تماما بأن غياب التخطيط والاشراف الميداني المباشر أو اللجوء الى مقاول مبتدئ أو مشرف بناء غير متمكن أو مطور عقاري غير مؤهل، سيجعل من تنفيذ خطة البناء تجربة مكلفة ماديا وفاشلة عمرانيا وشاقة بدنيا ومرهقة ذهنيا لمن يخوض غمار التجربة للمرة الأولى.
هذه المخاوف والمحاذير هي ما يجعل كثير من الراغبين في السكن ينظرون الى المنتجات السكنية الجاهزة كخيار بديل ووحيد ويسير اختصارا للوقت وابتعادا عن شبح القروض وكابوس الهواجس والهموم. ولكن المشكلة بالنسبة لمحدودي الدخل تكمن في غلاء الوحدات السكنية المعروضة للبيع نتيجة لانخفاض العرض مقابل ارتفاع الطلب. وبالرغم من إمكانية حصولهم على تمويل البنك، الا أن كثير منهم سوف يتردد ولن يقبل بالمجازفة بتحمل ديون بنكية طويلة الأجل وذات نسبة فائدة مرتفعة. ولذلك سميت معضلة السكن بأزمة السكن نظرا لما يحيط بها من أزمات خانقة تتعلق بالتمويل والتخطيط والتنفيذ والبنية التحتية للمخططات العمرانية. وستبقى هذه المشكلة قائمة الى حين إيجاد الحلول المناسبة لها.
وفي مقال سابق بعنوان " الباحثون عن السكن ... متى تتحقق أحلامهم"، كنت قد كتبت عن ضرورة تعديل نظام البناء واشتراطات البلديات فيما يخص تعدد طوابق البناء والاستفادة من الارتدادات المحيطة بمسطح البناء بحيث تكون متناسبة مع مساحة الأرض. وكانت وزارة الشئون البلدية والقروية أعلنت عن صدور نظام مطور للبناء في الارتدادات للفلل السكنية المنفصلة والمتصلة للدور الأرضي فقط حيث أصبح مسموحا ما يسمى بالبناء الصامت للارتداد الخلفي وأحد الارتدادات الجانبية، أو للارتدادين الجانبيين. وبهذا فقد ارتفعت نسبة البناء على الأرض الى 70% بدلا مما كانت عليه في الوضع السابق حيث لم تكن تتجاوز نسبة مسطح البناء 60%.
لقد سمح النظام المطور بأنه في حال وجود ملحق خارجي فلا بأس أن يكون ملاصقا للمبنى والارتداد. وبالنسبة للفلل المتلاصقة (الدبلوكس) فانه يسمح بالبناء في ارتداد واحد إضافي جهة المجاورين. وأما ما يتعلق بالفلل المنفصلة فقد أجاز النظام بالبناء في الارتدادات جهة المجاورين فقط بحد اقصى جهتين.
وعلى أية حال فان تعديلات البناء الصامت وكذلك الضرائب لن تسهم بفعالية كبيرة فيما يتعلق بكبح جماح الأسعار وردم الفجوة الكبيرة بين العرض والطلب ما لم يذهب التوجه الحكومي نحو إيصال خدمات البنية التحتية للمخططات في ضواحي المدن، ونحو تطوير القرى والهجر والمراكز لكي يتحقق ما أشرت اليه في مقال بعنوان " القرى والمراكز التابعة للمحافظات بحاجة الى تطوير". وحينما تتجه بوصلة الحل الحكومي نحو القرى وتزويد المخططات خارج النطاق العمراني بالخدمات الأساسية، فسوف يتبدل الحال حينذاك الى أفق جديد يبشر الجميع بغد مشرق جميل. ولكن البعض من مالكي المخططات داخل النطاق العمراني قد لا يروق لهم تطوير القرى وايصال الخدمات الى ما وراء حدود النطاق العمراني خشية تعرض مخططاتهم الى هزات سعرية قوية نتيجة لانتقال مؤشر الطلب الى مخططات سكنية أبعد ولكن بأسعار أرخص. فهل نرضي فئة قليلة على حساب فئة كبيرة وشريحة واسعة؟
في تقديري أن المخططات السكنية داخل النطاق العمراني للمدينة أو حتى على تخوم حدود المدينة لن تساعد مطلقا في حل مشكلة السكن ناهيك عن كونها تؤدي الى تضخم حجم المدينة وما يصاحب هذا التضخم والتوسع من تبعات كثيرة ذات آثار سلبية عديدة على رفاهية سكان المدن والبيئة كما أشرت اليه سابقا في مقال بعنوان " النمو في المدن الكبيرة .. هل سيتوقف؟"
وبما أن السمة السائدة حاليا في أسواق العقار هي الركود التام نتيجة لإحجام المشترين عن الشراء بسبب صعود مؤشر اسعار الأراضي والفلل السكنية وحتى الشقق الصغيرة على الرغم من حالة الركود أو بالأحرى حالة "المرض" التي يمر بها القطاع العقاري، وهي تلك الحالة التي تلقي بظلالها على حالة الاقتصاد عموما كما أوضحت ذلك أيضا في مقال بعنوان " سوق العقار "يمرض ولا يموت". وبالتالي فان تعافي هذا القطاع لن يتحقق الا بتطوير القرى وتزويد المخططات في ضواحي المدن بالخدمات الأساسية ومشاريع البنية التحتية لتشجيع المشترين بالتوجه اليها والبناء فيها. ومن هنا سوف تتأثر الأسعار نزولا داخل حدود النطاق العمراني كنتيجة طبيعية لانخفاض الطلب وتوسيع قاعدة العرض أمام صغار المستثمرين والراغبين في تملك الوحدات السكنية بأنواعها المختلفة.