لقد أضحت المعلومات عنصراً رئسياً فاعلاً في سائر الأنشطة البشرية في المرحلة الراهنة من عصرنا، فلا غرو أنها تشكل عاملاً أساسياً سواء في علاقة الفرد بمجتمعه أو في علاقة المجتمعات بعضها ببعض. وقد برزت في الآونة الأخيرة ملامح اقتصاد المعرفة أو الاقتصاد المبني على المعرفة والذي ينمو حالياً بمتوالية متصاعدة وعلى نطاق دولي واسع، حيث أصبحت سماته تتجذر على أرض الواقع جنباً إلى جنب مع الاقتصاد التقليدي بشقيه الزراعي القائم على الموارد الأولية والصناعي المعتمد على الطاقة من كهرباء وغاز وطاقة نووية وغيرها، فقد أدت الثورة التقنية إلى تداعيات كبيرة وواسعة على مجمل منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية برمتها في المرحلة الراهن، فتقنية المعلومات ساهمت بشكل كبير في بناء الاقتصاد المرتكز على المعرفة، وهو ذلك الاقتصاد الذي أطل بقوة على مشهد التاريخ الإنساني كله، إذ أصبح يثبت في كل يوم وجوداً وإنجازات على أرض الواقع، حيث يعرفه البنك الدولي بالاقتصاد الذي يحقق الاستخدام الأمثل للمعرفة واستثمارها بفعالية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وبالرغم من أن مفهوم المعرفة ليس جديداً، إلا أن الجديد في ذلك هو انعكسات وتأثيرات هذه المعرفة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى تطور مراحل حياة الأفراد عموماً، بفضل الثورة التقنية التي يشهدها العالم والتي أفضت إلى ان تشهد السنوات الأخيرة من القرن العشرين وما بعدها أكبر تغيير في حياة البشرية قاطبة. وفي ظل اقتصاد المعرفة فقد أضحت المعلومات من السلع الرئسية للمجتمع، حيث جرى تحويلها إلى أنماط رقمية على شكل نظم وخدمات المعلومات لتصبح من أهم ركائز اقتصاد المعرفة، ولم يعد الاقتصاد مختصاً بالبضائع وعملية التبادل التجاري للمنتجات فقط، وإنما أصبح اقتصاداً مبنياً على المعرفة والمعلومات و تقديم الخدمات، الامر الذي أكسب هذا الاقتصاد ميزة إنتاج وتسويق الخدمات والمعلومات، وهو اقتصاد مزدهر ومتنامٍ صوب الشمولية والتكامل العالمي، وفي هذا الصدد تشير بعض البحوث الاقتصادية إلى العلاقة القوية بين ازدهار القدرات العلمية والتقنية للدولة وبين معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي فيها، حيث يقدر بعض الاقتصاديين في هذا الجانب أن اكثر من 50% من النمو التراكمي لدخل الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية يعزى إلى التقدم التقني الأمريكي، بجانب ان المردود الاقتصادي للاستثمار في البحث والتطوير أعلى كثيراً من أي جانب من جوانب الاستثمار الأخرى.
إن مجتمع المعلومات يستند في مساره وتطوره إلى المعلومات والحاسبات الآلية وشبكات الاتصال، باعتبارها تقنية فكرية تنطوي على سلع وخدمات جديدة، مع استمرار القوة العاملة المعلوماتية التي تضطلع بعملية إنتاج وتجهيز ومعالجة ونشر وتوزيع وتسويق هذه السلع والخدمات، حيث أضحى هذا المجتمع يرتكز بسمة جوهرية على تلك المعلومات الكثيفة كمورد استثماري وسلعة استراتيجية وخدمة ومجال رحب لاستيعاب القوى العاملة، بل ورافد مهم لزيادة معدلات الدخل الوطني للدول. وفي هذا السياق فقد أبان الاتحاد الدولي للاتصالات بعيدة المدى، في أحد دراساته أن قطاع المعلومات قد نما على المستوى العالمي في العام 1994م بمعدل أكثر من 5%، في حين كان نمو الاقتصاد العالمي بصفة عامة بمعدل أقل من 3%. وبذا فإن هنالك معالم واضحة تنبىء بالتحول من الاقتصاد القائم على الصناعات إلى اقتصاد المعلومات بجانب عملية التحول من الاقتصاد الوطني إلى الاقتصاد العالمي الشامل أو المتكامل، وعدم الاعتماد على إنتاج البضائع والسلع والاستعاضة عنها بإنتاج المعلومات وخدماتها.
لقد تحولت تقنية المعلومات والمعرفة من تقنية كثيفة الطاقة إلى تقنية كثيفة العمالة، حتى برزت أخيراً كتقنية كثيفة المعرفة، وهنا يتبدى لنا وجه بالغ الخطورة في هذا السياق، ذلك أن المعرفة الإنسانية (المعلومات) هي في حوزة الأقوى عالمياً، الذي يتقن عملية استغلال هذه التقنية لإحكام قبضته وفرض ثقافته وعولمته على الآخرين، ولا بد من استصحاب التداعيات السالبة لهذا الجانب لدى عملية إدماج اقتصاد المعرفة في الاقتصاد الكلي للدول.
إن اقتصاد المعرفة يرتكز بصفة أساسية على توليد وجمع ونشر المعلومات ومن ثم استثمارها للوصول إلى نتائج محددة، وفي هذا السياق فإن نجاح كثيرا من المنشآت والشركات يتوقف على مدى فعاليتها في جمع المعرفة ومن ثم تطويعها بغية رفع معدلات الإنتاج لديها وتوليد سلع وخدمات جديدة، بل إن الاقتصاد في المرحلة الراهنة أصبحت توجهه شبكات المعرفة التي تتبدل فيها المعلومات بوتيرة سريعة، وفي هذا الصدد فإن هناك شبكات شتى للمعرفة، مثل شبكات المعرفة الخاصة بالجامعات وشبكات مراكز البحوث وشبكات الصناعات المختلفة وغيرها، حيث أضحى المجتمع الذي يتخلف عن تطويع تلك الشبكات لتحقيق أهدافه، مجتمعاً متأخراً عن الركب الاقتصادي برمته.
إن المملكة تشهد حالياً في ظل الأهداف الكبيرة لرؤية 2030 حراكاً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً في سبيل بناء نهضة شاملة واقتصاد أكثر تنوعاً يستصحب معه وعاء معرفياً أكبر بعيداً عن الاقتصاد القائم على الموارد الطبيعية، وبالرغم من ذلك فهناك العديد من التحديات الكبيرة المطروحة التي يستلزم تخطيها للوصول إلى تحقيق الرؤية المستقبلية، فمع وجود الموارد الاستراتيجية الضخمة، إلا أن هناك تحديات هيكلية ومؤسسية ينيبغي وضع حلول ناجعة لها.
*د. جواهر بنت عبد العزيز النهاري
كاتبة سعودية