إن الإنسان مخلوق من مادة وروح، قبضة من طين، ونفخة من روح، قال سبحانه: ((فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين...)) الحجر/29. وقال عزوجل: ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين...)) الأعراف/12.
ولقد كرّم الله سبحانه وتعالى الإنسان بسمو روحي يتميز به عن جميع المخلوقات، وهذا السمو له أسسٌ متعددة موجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية، من خلال الدعوة إلى التمسك بها، يقول عزّ وجلّ: ((ألا بذكر الله تطمئن القلوب...)). وجاء في الحديث: ((القلوب جنودٌ مجندة ما تعارف منها إإتلف، وما تناكر منها اختلف)).
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتاله وينتقم منه، فلما سمع آيات من القرآن الكريم دخل الإيمان قلبه، فسمت روحه، وصفا قلبه.
إن المحبة تسمو بالنفس إلى أعلى المراتب، وقد كان ذلك بارزاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد هجرة الرسول وأصحابه من مكة إلى المدينة، حتى إن أحدهم ليعرض على أخيه أن يتنازل له عن نصف ماله عن طيب نفس، بل وعن إحدى زوجتيه ليتزوجها أخوه. وهذا قمة السمو الروحي.
وفي المقابل فإن الصفات السيئة والخصال المرذولة كالحسد والغش والخداع والغيبة والنميمة والمكر والغدر والخيانة... تـُبعد الإنسان عن السمو الروحي والصفا القلبي، ولذا أوصانا الله عزّ وجلّ بالتعوذ من الحسد: ((ومن شرّ حاسد إذا حسد)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ غشنا فليس منا...)). ونـُهينا عن الغيبة والنميمة، ((إياكم والغيبة...)) (( لا يدخل الجنة نمّام...))، حتى تكون أخلاقنا نبراساً يهتدي به الضال، ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سَعوهم بُحسن الخُلق...)). ولقد كان لنا في رسول الله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، في أقواله وأفعاله، في عبادته ومعاملاته، ((كان خُلقه القرآن))، وكان يقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي...)) ((خذوا عني مناسككم...)). وكان عليه الصلاة والسلام يحب التيامن، وإذا عُرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر، أخذ الذي هو أيسر، رحمة بالأمة، إنه رسول الله صاحب القلب الكبير، والسمو الروحي العالي، الذي قلّ أن يصل إليه أحدٌ، يقول الشاعر:
مَن الذي ما ساء قط ومَنْ له الحُسنى فقط
محـمد الهـادي الذي علـيه جـبريـل هبـط
إنّ صفاء النفس له آثار حميدة على الفرد والمجتمع، حيث دائماً ما يكون صاحب الصفا النفسي مستقر البال، مرتاح الحال، مطمئن الفؤاد. بل إنّ المجتمع بأفراده تبعد عنهم الأزمات النفسية والقلق والحيرة، وتبرز فيهم خصال التكافل الاجتماعي والتآخي والمودة والتعاون والمشاركة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى...)) إذ أن ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً...)).
ثم إن الأمثلة التاريخية والواقعية كثيرة، تبرز يقظة الضمير وشفافية الروح، وحساسية الفؤاد، فهذا الصحابي الجليل ماعز المازني رضي الله عنه يتقدم إلى الرسول الكريم معترفاً بجريمة لم يَعرفها أحد، ويعرّض نفسه للعقوبة، رجاء أن يلقى ربّه صافٍ مصفى، خالياً من الذنوب والمعاصي. وهذه الغامدية أيضاً تسير في نفس القافلة قافلة النور والمحبة، قافلة الصفا القلبي تعترف للرسول عليه الصلاة والسلام بجريمة الزنا.
تقول ـ كما قال قبلها ماعز المازني ـ يا رسول الله طهرني، فيقول رسول الله بعد تنفيذ الحكم فيها: ((إنها تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لكفتهم)). إنها يقظة الضمير، إنه الضمير الحيّ، إنها عقيدة الإسلام، عقيدة الضمير.
وهذا مالك بن دينار رحمه الله الذي كان كما في بعض الروايات شرطياً طاغية يسلب ويظلم ويقتل، لما سمع رجلاً يقرأ: ((ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله...)) انقلب إلى شيخ عظيم من شيوخ التقوى والورع. وأخيراً هؤلاء النفر الثلاثة من السلف الصالح في معركة من معارك الإسلام الخالدة، معركة القادسية، تتناوب عليهم آنية الماء وهم جميعاً جرحى، فيؤثر كل واحد منهم الآخر بالشرب، حتى يلاقيهم الأجل على هذه الصورة من الإيثار والسمو الروحي.
هذه بعض أمثلة محسوسة ملموسة تاريخية واقعية سمت فيها النفوس وصفت فيها القلوب، وآثارت غيرها على نفسها، انتظار الأجر والثواب من ربّ الأرباب.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار وعضو هيئة
التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية