مكتبٌ صغير، بإحدى زوايا حُجرة المنزل، وأوراقٌ مُكدّسةٌ فوق بعضها، وقلم رصاص، وألوانٌ خشبيَّةٌ ومائية، ولوحاتُ رسمٍ مُختلفة الأحجام والأنواع، منها القُماش والورق، والعديد من دفاتر الاسكتش والقِصص، وسط كُلِّ ذلك جهاز حاسُوب ولوحة إلكترونيّة كبيرة للرسم، مُعظم هذه الأشياء، تعتبر عالم الشَّاب خالد جرادة (22سنة)، الذي يقطُن بمدينة غزة، ويهوى فنُّ “الكومكس”.
“الكومكس” هو فنٌّ عالمي ويجمع الكثير من الفُنون وأهمها الرَّسم والكتابة، حيث يُشبهه البعض بأنّه سينما الرسم، ويعد وسيلة للتعبير عن الأفكار باستخدام الصُّور والأحداث المتتالية، ويعرف بـ”الرسم الرقمي”، وهو الوسيلة الأكثر شُيوعًا لإنتاج القصص المصوَّرة.
الشَّغف
كأيَّ طفل صغير كان خالد شغوفًا بالرُّسوم الكرتونية والصُّور المتحرِّكة، ثمّ رسم هذه الشّخصيّات الكرتونيّة وتلوينها، يقُول جرادة عن بدايته، لـ “أضواء الوطن”: “بدايتي الحقيقية كانت في عام 2014م، عندما كان عُمري (18سنة)، حينها قُمت بنسخ الصُّور الشّهيرة ورسمها على الأوراق والقماش، ورويدًا رُويدًا أصبحت أصيغ القصص المصوَّرة، من خلال الرسم الذي يعرف عالميًا بــ”كومكس”.
ويضيف: “تعلمت هذا الفن الجميل ذاتيًا ولم يتعلق الأمر بتاتًا بدراستي للوسائط المتعددة، والإنترنت هو مرجعي الأول في تعلُّم الكومكس، إضافة إلى نصائح الكثير من الفنانين داخل وخارج غزة؛ لأتمكَّن من تعميق خبرتي، ونقل تجاربهم لإلهام الآخرين”. ويوضِّح، أن “العمل المشترك مع الكاتبة البرتغاليّة (فيرا روكيت)، والذي يتحدّث عن قصّة بين كاتب صحافيّ ونملة ذات تفاصيل مُمتعة، زاد من موهبته”.
ويقضي خالد يوميّاً بين 8 و10 ساعات مع حاسُوبه وأقلامه وأوراقه للرسم، فلا يبرحُ مكانّه حتّى يُبدع ويُنتج شخصيّة كرتونيّة أو قصّة أوجدها من الواقع الذي يعيشه، أو يُنفّذ قصص أطفال لدور نشر مُختلفة كـ”ليلى والذِّئب” و”قصص جُحا”، إضافة إلى فيديوهات “أنميشن” دعائيّة من باب آخر، ألا وهو الدّعاية والإعلان.
إبداعٌ مُستمر
يعتبر خالد “الكومكس”، أنه “من أهمِّ المهن في مجال الترفيه بفروعه من إنتاج أفلام كرتونية وألعاب وتطبيقات تفاعلية، وكُلها تتطلَّب وُجُود رسامين لتصميم الشّخصيّات ورسم البيئات والتّحريك، كما أنَّهُ يعتمد بالدّرجة الأُولى على الخيال والابتكار والمعرفة ويستلزم مُمارسة دائمة”، ويشير إلى أنَّ “الكثير من القصص التي بدأت كرسومات أصبحت الآن أفلامًا شاهدها الجميع مثل “باتمان” أو “ديدبول”.
ويلفت إلى أنَّهُ: “أنجز العديد من الأعمال المختلفة بتميُّز منها تصميم كُتُب مدرسية من الصّف الأول الابتدائي للتّاسع الإعدادي في مدارس الأونروا مع اثنين من الفنّانين، إضافة لمساهمته الفاعلة في تحوُّل رُسوماته إلى ألعاب يتم تنزيلها على الهواتف الذكية”.
ويبيِّن أنَهُ “يعمل حاليًا على صياغة ورسم العديد من القصص المصوَّرة التي تحكي حكايات النّاس في غزة، ويطمح أن تكُون صدًى لصوتهم وتعبِّر عنهُم بالطّريقة المناسبة، وأن تُشكِّل هذه القصص تجربته الشّخصيّة وتجارب المجتمع الكبير والمنوّع بمختلف أشكاله وأطيافه وميّوله”.
ويذكر جرادة أنّهُ لا تُوجد في غزّة نماذج بارزة في هذا الفنّ، باستثناء الرِّواية المصوَّرة “هوامش في غزة، Footnotes in Gaza” الصّادرة عام 2009م، وهي النسخة اليتيمة في غزّة للصحافيّ المالطيّ – الأميركيّ جوّ ساكُو_ وتدُور أحداثها حول مجزرتين وقّعتا عام 1956 في خانيونس، ورفح جنوب القطاع، وبأسلوب شيِّق يربط المُؤلف الماضي بالحاضر حيث استمرار المعاناة.
مُحاكاة الواقع
خلال زيارة “مراسلنا” لخالد، ما كان يُمكن إغفال اللّوحة الكبيرة المثبَّتة على المرسم، شابٌّ يرتدي حقيبة على جبينه “باركود” المنتجات، وعلى فمه كمامة تبدو كوثيقة السّفر الفلسطينيّة. سألنَا عن اللَّوحة، فكانت القصة أنَّ أحد أصدقائه حصل على تصريح سفر عبر معبر بيت حانون، وقابل ضُبَّاط الاحتلال أبلغوه بمعلومات عن حياته يكاد هو لا يعرفها، “كأنَّهُ عُلبة فُول تم مسح الباركود الخاص بها، فظهرت كُلَّ النَّتائج على شاشة الحاسوب”.
ويشير خالد في شرحه إلى أنَّ الكمامة ترمُز لوثيقة السّفر الفلسطينيّة التي تخنُق صاحبها، والحقيبة الخفيفة هي عدم وُجُود ما يترُك في الخلف بغزة، ورقم 1948 يعُود لبداية من بدايات المعاناة الفلسطينيّة.
مُعيقَات وطمُوح
لَوح الرَّسم الإلكترونيُّ، أحد أهمِّ أساسياّت عمل “الكومكس”، لا يتوفَّر في غزة، وإن وُجد فيكُون ثمنُه ثلاثة أضعاف، فاضطرَّ لشرائه عبر الإنترنت، وإرساله لصديق في لندن يزُور غزة بين الفترة والأخرى، وهذه ليست إلَّا واحدة من عدّة مُعيقات يُواجهها في إطار عمله.
ولابدَّ أنَّ مُمارسة العمل باستمرار تزيد من مهارته، يقُول خالد: “أحتاج للمشاركة في أعمال كبيرة لتطوُّر من أدائي، فقلَّة إنتاج الأفلام المصوَّرة أو الكرتونيَّة هُنا يحِد من فُرص مُمارستي الفن ويُضعِف خبرتي التي تستلزم وُجُود فريق وخبراء مُتخصِّصين لنستفيد من تجاربهم وعلمهم”.
وكون خالد يُعد من أوائل الفنّانين الذين يُمارسون هذا العمل في غزة، فإن الغزيون لا يعرفون الكثير عن طبيعة فنِّه، يضيف: “غالبًا ما يستغرب النّاس لوحاتي وسرعان ما يقومون بسؤالي: “ما هذا الرَّسم؟” “كيف تقُوم بهذا الفن؟” ولا يتصوَّروا أنَّ الكثير من هذه الرُّسومات أنتجتها من خَيالي حيث تُستخدم في إنتاج الرُّسوم المتحرِّكة والألعاب الإلكترونيّة”.
يَأمُل خالد جرادة أن يُمثِّل فلسطين بفنِّ “الكومكس” في المنصّات العالميّة من خلال المشاركة في إنتاج رُسُوم أفلام الكرتون العالميّة بعد أن يصل لمستوى احترافيٍّ فيه، كما يطمح أن يَصدُر سلسلة من القصص المصوَّرة التي تبقى باسمه وتتحدَّث عنها الأجيال.