أمَّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد النبوي إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن القاسم فتحدث في خطبته الأولى عن اليقين ومنزلته في الإيمان فقال: العلم بالله منزلة عظيمة، واليقين بزيادة العلم وطمأنينة القلب درجة أخصُ من العلم، وشعبة من أعلى درجات الإيمان، والموقنون طائفة خاصة من المؤمنين، أعلى درجة واطمئناناً من سائر المؤمنين، وكما أن الإحسان يكون في عمل الجوارح، فاليقين في عمل القلب، وأهله فيه متفاوتون؛ وتحقيق اليقين بالله الذي هو: العلم التام الذي لا شك فيه، الموجب للعمل؛ أعظم مقامات الإيمان ، وهو شعار الأنبياء، وصفة المؤمنين.
ومنزلة اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «اليقين الإيمان
كله »، ولما أراد الله أن يزيد خليله إبراهيم عليه السلام إيماناً مع قوة إيمانه؛ أراه ملكوت السموات
والأرض، ليصل إلى تلك المنزلة الرفيعة، قال سبحانه: ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ ، قال ابن كثير رحمه الله: «أي: تبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز وجل، في ملكه وخلقه، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه».
وأهل اليقين أرفع الناس منزلة بعد الأنبياء؛ لكمال يقينهم، قال أبو بكر بن عياش رحمه الله: «ما
سبقهم أبو بكر رضى الله عنه – بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر أي: سكن وثبت – في قلبه».
والموقنون هم المنتفعون بالنظر في الآيات والبراهين، قال تعالى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾،
وخص الله أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ .
وتحدث فضيلته عن النظر في الآيات الدالة على الله سبحانه وتعالى فقال: والله حث على النظر في الآيات الدالة عليه : ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ وطرق معرفة الله والاستدلال على وجوده واستحقاقه العبادة لا حصر لها، فله في كل شيء أية، وكل مافي الكون يدل عليه، قال سبحانه: ﴿ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ وقاعدة القرآن: تقرير توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، وربوبيته تستلزم ألوهيته.
ومن أعظم الأدلة على وجوده: مخلوقاته، فلا شيء في الكون إلا والله خالقه؛ إذ استقر في العقول
والفطر كلها أن المخلوق لا يخلق نفسه ، ولا يوجد من غير موجد، وأن المسبب مرتبط بسببه، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾ .
وتحدث فضيلته عن دلالة الإنسان نفسه في وجود الخالق فقال: وفي نفس الإنسان أعظم الدليل على خالقه، خلقه بعد العدم من ماء مهين لا قيمة له، فصيره لحماً وعظاما، وأنشأه خلقاً آخر، يسمع ويبصر، وينطق ويسكت، ويأخذ ويعطي، ويذهب ويجيء، علمه بعد الجهل، وأغناه بعد الفقر، وجمله بالعقل، وهداه إلى مصالحه، وأحسن خلقه، ورفع شانه، وسخر له كل شيء من حوله ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾.
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن وجود الله وهو أعظم الحقائق فقال: فالرب هو الحق الذي لا مرية فيه؛ اسمه الحق، والحق صفته، ووجوده أعظم الحقائق ثبوتا ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ ﴾ ، واليقين بأصل الإيمان؛ شرط من شروط لا إله إلا الله، ولا إيمان مع الشك أو التردد وعدم اليقين، فالإيمان لا يقبل إلا باليقين، والعلم واليقن يجده الإنسان من نفسه كما يجد سائر إدراكاته وحركاته، ومن رزق اليقين لم يرجع عن دينه سخطة له، وترقى في مدارج العبودية حى يبلغ الدرجات العلى.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن بلوغ حقيقة الإيمان: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى ينتفي عنه الريب ، ويجزم بصدق الرسالات، ويوقن بكمال الرب، ويعبده وحده دون سواه، ويوقن بالبعث بعد الموت، وعلى هذه الأصول مدار الرسالات كلها، وأصل الإيمان لا يثبت ولا يثمر إلا إذا تعاهده صاحبه بالإصلاح، لئلا تضعفه شبهة، أو تؤثر فيه فتنة، والحاجة إلى زيادة اليقين وتثبيته ملحة في كل حين، وتزداد الحاجة إلى زيادة اليقين عند توارد الشبهات، والمؤمن حسيب نفسه، يتفقدها عند ورود الشكوك والريب، فإذا أحس بضعف اليقين فزع إلى ما يقويه، و سرع إلى ما يثبته .