في أوائل عصر الرخاء الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، ادَّعى فيكتور ليبو أن مجتمعنا المنتج إنتاجًا هائلاً يتطلب أن نجعل من الاستهلاك أسلوبَ حياتنا، وأن نحوِّل الشراء واستعمال السلع إلى طقوس، وأن ننشِّط رضانا الروحي، رضانا الأناني في الاستهلاك، نحن نحتاج الأشياء لنستهلكها ونحرقها ونبليها ونستبدلها، وننبذها، بمعدَّل يتزايد دائمًا، ولقد استجاب الأمريكيون وغيرهم لنداء ليبو.
لقد أصبح الاستهلاك دعامة مركزية للحياة في الدول الصناعية، وهو كامن أبدًا في القيم الاجتماعية وتوضِّح استطلاعات الرأي في أكبر اقتصاديَن في العالم اليابان والولايات المتحدة أن تعريفات المستهلك للنجاح قد أصبحت هي السائدة على نحو متزايد باطراد.
والاستهلاك المفرط للعالم مشكلة بيئة لا يضارعها في التأثير والشدَّة أيُّ شيء فيما عدا النمو السكاني فالاستغلال السيئ للموارد يهدِّد باستنفاذ أو تشويه لا مفرَّ منه للغابات والتربة والماء والهواء والطقس ومن المتناقضات، أو الاستهلاك العالمي قد يكون نعمة، وكذلك نقمة في الوقت نفسه.
وعلى ذلك، فإن الكثيرين في الدول الصناعية لديهم إحساس بأن عالم الوفرة الذي يعيشون فيه أجوف، وأنهم قد خدعوا بالمظهر الكاذب لثقافة استهلاكية، وأنهم يحاولون بلا جدوى إرضاء كل ما هو في جوهره اجتماعي بأشياء مادية.
وبالطبع، فإن عكس الاستهلاك المفرط الفقر ليس حلاًّ لأيِّ من المشكلات البيئية والإنسانية، إن الاستهلاك المتزايد صاروخيًّا سمة لعصرنا الحالي، ولقد رفع التقدُّم التقني المذهل والمكاسب المالية المتزايدة، وبالتالي إنتاج سلع مادية أرخص، من الاستهلاك الإجمالي إلى مستويات لم يكن أحد يحلم بها من قرن مضى.
وعلى النطاق العالمي، فإن الاستهلاك منذ منتصف العشرين، من النحاس والطاقة واللحوم والفولاذ والخشب، قد تضاعف تقريبًا وامتلاك السيارات، واستهلاك الأسمنت قد تضاعف كذلك يقول "آلان وريننج": إن انهيار الحكومات الاشتراكية، قد أطلق العنان لموجة مادية من الطلب الاستهلاكي، الذي لم تتيسر تلبيته في الاقتصاديات الهزيلة التي سيطرت عليها دول المنطقة.
وقد شاهدت فترة أواخر الثمانينيات بعض المجتمعات الفقيرة، وهي تبدأ في التحول إلى أساليب استهلاكية.
ومع ذلك، فقبل أن يتمكن الناس في أرجاء العالم من تحقيق الحلم الاستهلاكي، بوقت طويل سيكون كوكبنا الأرضي ضحية للنفايات، وآكلي اللحوم، وسائقي السيارات، والمستهلكين الذين لا يُبالون بما يُلقون من فضلات، والبالغ عددهم نحو بليون شخص مسؤولون عن نصيب الأسد في الأضرار التي ألحقها البشر بالموارد العالمية المشتركة.
ومن أسباب ذلك، أن الحفاظ على أسلوب الرخاء يتطلب استجلاب الموارد من بلاد بعيدة، فاستهلاك الشخص من الغذاء والخشب والألياف الطبيعية، والمنتجات الزراعية الأخرى، يضمن استغلال أراض من خارج البلاد، ومعظمها يأتي من العالم الثالث.
وتستعمل الدول الصناعية ما يقارب من ثلثي الاستعمال العالمي من الفولاذ، وأكثر من الثلثين من الألومنيوم، والنحاس، والرصاص، والنيكل والقصدير والزنك، وثلاثة أرباع الطاقة.
ولقد صنع هؤلاء الذين يمثلون أغنى خمس البشرية أكثر من 99% من رؤوس الحرب النووية في العالم. ومن الواضح، أنه حتى بليون مستهلك مبذر يعتبر أكثر مما تطيقه الأرض.
وإلى جانب التكاليف البيئية للإسراف، فإن بعض النتائج المحيِّرة التي توصَّل إليها علماء الاجتماع تلقي ظلالاً من الشك على الحكمة في الاستهلاك العالي بوصفه هدفًا شخصيًّا ووطنيًّا، فالمجتمعات الغنية لم تلق سوى نجاح ضئيل في تحويل الاستهلاك إلى اكتفاء وشعور بالرضا.
وإذا كانت فعالية وفاعلية هذا الاستهلاك في تهيئة الاكتفاء الشخصي موضع شك، فلعل الهموم البيئية قد تساعدنا في إعادة تحديد أهدافنا.
[COLOR=#FF0026]أ . د / زيد بن محمد الرماني[/COLOR]
ـــ المستشار الاقتصادي و عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
للتواصل : [email]zrommany3@gmail.com[/email]