يظل الغذاء في توزيعه ووفرته ومشكلات الحصول عليه أمراً يشغل العالم الذي يستقبل كل يوم المزيد من الأفواه المفتوحة طلباً للغذاء، حتى أنه إذا توفر وكان مناسباً، فقد تقف أمامه عقبات كالتقاليد والعادات لتحول دون وصوله إلى بعض هذه الأفواه . ذلك هو الغذاء .
أما الماء فهو يختلف كثيراً عن الغذاء في كونه مورداً لا ينضب . له دورة معقدة على الأرض تعرف بالدورة الهيدرولوجية .
ولا شك أن تلك الاحتياجات هي الاحتياجات البيئية الملحة التي عاشت مع الإنسان منذ بدء الخليقة، تلك الاحتياجات التي تحدد بقاء الإنسان على سطح الأرض وتوزيعه ومعدل بقائه ومدى تقدمه .
فإذا أريد حقاً للإنسان أن يظل على قيد الحياة ، وأن يظل سيداً بين الكائنات الحية الأخرى . سيداً على بيئته الطبيعية . فعليه أن يدرك تماماً ماهية ذلك الكوكب الذي يعيش عليه .
بَيْدَ أن كثيراً من الشعوب والدول قد أصبح لديها معلومات قيمة وفريدة وغريبة في آن واحد عن جوانب متعددة لأحوال سطح هذا الكوكب، أكثر مما لديهم من معلومات عن التدمير الذي سوف يحدث للأرض نتيجة للانفجار السكاني والنمو المطرد للحياة عليها .
إن الإدراك بأن هناك بليوناً أو اثنين من السكان يعيشون على الكوكب دون غذاء كاف لهم، من شأنه أن يثير الدهشة والتساؤل والذهول . كذلك كيف أن هناك عشرة أو عشرين مليون نسمة من السكان ومعظمهم من الأطفال يموتون جوعاً كل عام، حسب بعض الإحصاءات المتحفظة، في الوقت الذي يتجه فيه الكثير من المزارعين وبتوجيه من حكوماتهم، وتحت تأثيرات المدنية الحديثة بتقليص المساحات المزروعة من المزروعات الغذائية . أليس هذا مدعاة للدهشة والألم؟! .
كم من أفراد الشعوب الأوروبية والأمريكية يدركون تماماً كيف أن حيواناتهم المدللة تتمتع بغذاء أفضل من مئات الملايين من البشر؟!.
يقول د . محمد عبدالرحمن الشرنوبي في كتابه "الإنسان والبيئة": إننا نسمّى في الغرب بدول الجوع ويطلق الغرب على أفرادنا "الجياع"!!.
إن فقراء العالم اليوم في حالة لم يسبق لها مثيل . إنهم يعلمون ما يتمتع به العالم الغني . إن وسائل الإعلام من صحف وسينما وإذاعة وتليفزيون وقنوات فضائية إضافة إلى الإنترنت وعالم الحواسيب الرهيب، قد نقلت إلى العالم الجائع طرق المعيشة في الدول المتقدمة والمترفة .
لقد شاهد كل هذا، العالم المتخلف، شاهد دولة السيارات والناطحات والطائرات والغواصات والبواخر وأجهزة الاتصال والمواصلات ووسائل الترفيه والنعيم .
وبالطبع فإن أفراد هذا العالم يتطلعون إلى مشاركة العالم الغني في حياة الترف التي يحياها . فهم متطلعون لما أسماه ستيفنسون بالآمال أو التوقعات المتزايدة .
إن كرونولوجية المجاعة أي دراسة تاريخ وتقويم وتسلسل أهم المجاعات التي حلت بالبشرية أمر مهم .
فليس من السهل الحصول على تاريخ سليم لكل هذه المجاعات، ولكن حصر ما كان منها مؤثراً يعتبر أمراً ممكناً إلى حد ما .
فقد أسهمت المجاعات إلى حد كبير في المعدلات العالية للوفيات حتى بعد ظهور الثورة الزراعية، وكذلك الفيضانات والحروب والأوبئة وأسباب أخرى عديدة،مما دفع بالسكان إلى حالة من الهزال والضعف الشديد وفقر الدم والإنهاك والتردي في مؤثرات حادة أساسها الجوع مهما كان السبب فيه .
كتب جورج بورجستروم في نهاية الستينات قائلاً إن هناك حوالي 450 مليون نسمة ممن بين سكان العالم ينعمون برغد العيش والغذاء، مقابل 2400 مليون نسمة يعانون إما من نقص أو سوء التغذية .
أما الآن فهناك أكثر من 70% من سكان العالم يعانون من سوء التغذية بالمفهوم العلمي أي نقص في أحد العناصر الأساسية للغذاء أو أكثر خصوصاً في البروتينات .
هذه التصريحات والأرقام وغيرها كثير مما نقرأه ونسمع به في الآونة الأخيرة، إنما يعني أن هناك أكثر من بليون ونصف البليون من بين سكان العالم إما يعانون من نقص أو من سوء التغذية .
وهناك تقديرات أخرى تدل على أن عدد الجياع من البشر يزيد عن بليونين من السكان. ومنهم حوالي نصف بليون يعانون إما من الجوع المزمن أو يموتون جوعاً .
وهذه الأعداد لا تشمل بطبيعة الحال الملايين من الجوعي الآخرين الذين يعانون من سوء التغذية من الطبقات المتوسطة في الدول المتقدمة. أو الذين يستطيعون الحصول على الغذاء الجيد . ولكنهم لا يفعلون لجهلهم بالعناصر الغذائية الأساسية اللازمة لهم .
وفي مواجهة هذه الأعداد الغفيرة التي تترنح من الجوع، لا نجد صوتاً يرتفع بالمأساة التي يعيشها العالم بالقدر اللازم أو المناسب لحجم هذه المأساة، بل هناك من يقول بالزعم أن ذلك أمر طبيعي، ولطالما مرت البشرية بأزمات ومجاعات، فما الذي تغيّر إذن حتى ترتفع صيحات الخوف .
والحقيقة، فإن الموقف المعاصر والخاص بنقص الغذاء في العالم أمر لم يحدث في التاريخ من قبل، كما أن التهوين أو التخفيف من شأنه، إنما يعتبر جريمة عصرية لن يغفرها التاريخ لأجيالنا بأعدادنا من جانب، وبملوثات بيئتنا من جانب آخر .
فللأسف، فإن أسباب سوء توزيع الغذاء في العالم ترجع إلى عدة عوامل متداخلة، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو اجتماعي، فالفقر والجهل وأساليب الإنتاج التقليدية والعادات والتقاليد وتخلف المواصلات، كلها تعتبر من الأسباب الجوهرية في سوء توزيع الغذاء بين سكان العالم وأقاليمه .
إن المشكلة الغذائية تكمن في عدم تنوع الغذاء والوقوع في أمر العادات والتقاليد، وهو أمر تاريخي لا يرتبط بزيادة السكان بالطبع، ولا بالأوبئة أو الجفاف أو الفيضانات التي تسبب المجاعات المفاجئة عادة.
إن مظاهر سوء التغذية أو ما يُعرف بالجوع الخفي لا تقل أثراً عن الجوع الواضح الذي تتسبب فيه الكوارث الطبيعية عادة .
فقد أسهمت المجاعات في رفع معدلات الوفاة حتى بعد ظهور الثورة الزراعية، كما بيَّنت ذلك سابقاً . فحتى هذا القرن، فإن المجاعات مازالت تقتل الملايين من السكان .
إنها حقيقة مخيفة!!.
والحقيقة التي لا ينبغي الخجل من إعلانها هي أن العالم النامي والذي يتميّز بمعدلات زيادة عالية، سيجد نفسه في ورطة إن لم يعمل على تنظيم هذا النسل المتزايد المنذر بالخطر على حد زعم بعض الاقتصاديين .
وعلى الرغم من أن هذا العالم النامي والمتخلف يمتلك إمكانات مذهلة تمكنه من العيش في رخاء، ولكن بشرط أن يأخذ بأساليب الاستغلال السليم أو حتى بالاستغلال مطلقاً، بَيْدَ أنه لا يستغل إلا أقل القليل من بيئته .
فهذه الصحاري في العالم العربي والغابات والموارد والأنهار والمياه، كم استغل العالم العربي منها؟!
ختاماً أقول: إن الرمال ثروة،والمياه ثروة والسهول الفياضة ثروة، والسواحل والجبال والأنهار ثروة، وقد آن أوان استغلال هذه الثروات .
حتى لا نبقى أسرى تخلف وفقر وجوع آثارها مدمرة، ومن أجل ألا نصبح جياعاً خائفين، خاصة أن أحوال الدول العربية سوف تزداد سوءاً وبؤساً بدرجة خطيرة إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه!!
[COLOR=#FF003E]
أ . د / زيد بن محمد الرماني [/COLOR]
ـــ المستشار الاقتصادي و عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
للتواصل : [email]zrommany3@gmail.com[/email]