تسلل التفاؤل إلى دواخلنا عندما قرأنا خبراً صدفة
قبل ما يزيد عن ثلاثة أعوام، مفاده أن أحد رجال الشرطة السورية يتم تحويله للتحقيق
بسبب صفعه لأحد المارة !!
كان الوطن العربي مشتعلاً وعواصف التغيير تعصف بكل
من يقف في وجهها، وكان الخبر بالنسبة لنا بمثابة إشارة كبيرة بأن النظام في سوريا
قد تلقى الرسالة سريعاً، وتجاوب معها تفادياً لإنتقال العواصف إلى داخل أسواره،
وهو ما كنا نتوقع حدوثه بناء على قراءاتنا في أحداث التاريخ القريب والبعيد.
وكان واضحاً كيف أن كل الأنظمة كانت تتجه لإتجاه
واحد في مواجه كل ثائر على ظلمها وطغيانها، التخوين والعمالة، وإلباس الثائرين
لباس الإرهاب، ذلك "البعبع" الذي يرتعد الغرب عند ذكره.
وكان النظام السوري يواجه أطفالاً كتبوا على
الجدران عبارة ضربت في عمق أمن الدولة والنظام الذي إعتقدنا بأنه تلقف الرسالة
سريعاً وتجاوب معها لتجنيب البلاد ويلات الفتن والحروب.
لنكتشف سريعاً أنه تلقى رسالة أخرى مختلفة تماماً
عن إعتقادنا، فرأينا الضحايا يتساقطون برصاص الأمن بعد أن جاءت الرسالة بأن لا
يبقى أثر لهؤلاء الرعاع في الشوارع.
ثم إتجه النظام السوري بعد أن وجد أن المظاهرات
بدأت تعم كافة المناطق السورية، وتنتشر في البلاد إنتشار النار في الهشيم إلى
طريقة أخرى أكثر دهاء من كل الأنظمة الأخرى المخابراتية، وهي ختم كل من يعارض
النظام بختم الإرهاب، وحتى يكون الكلام عملياً رأينا قرارات العفو المتتالية التي
كان يخرج معها أصحاب الجرائم الإرهابية، والتراخي المتعمد أو غير المتعمد في ضبط
الحدود العراقية لترك المجال لأي متشدد أو إرهابي الدخول للأراضي السورية وتحويلها
إلى حرب داعش والغبراء ...!
كل هذا سواء كان بتخطيط النظام أو رغماً عنه كان
أكبر خدمة له، ليتم إستثمار ذلك إعلامياً أفضل إستثمار، وتصوير الثورة بأنها ليست
إلا مجموعة من الإرهابيين جاؤوا لقتل وذبح الشعب السوري، وتعليق المشانق له في
كافة ربوعها ..!
ولم نستغرب ذلك السؤال الذي طرحه ذلك الصحفي
المسكين على وزير الإعلام السوري في مفاوضات جنيف الأخيرة، والذي أعاده 19 مرة لعله
يلقف له إجابة من الوزير، فقد كنا قد طرحناه على أنفسنا أكثر من 50 مرة، ونحن نرى
الإرهاب والتشدد يسرح ويمرح في ربوع الرقة ومناطق سورية أخرى، وقوات النظام توغل
قصفاً وتدميراً في كل المناطق الأخرى، ولا تقترب من المناطق التي تسيطر عليها
الجماعات الإرهابية المتشددة وكأنها أصبحت تحت حكم ذاتي مثل كردستان في العراق، أو
شبه جزيرة القرم في أوكرانيا ...!
وعلى ذكر شبه جزيرة القرم التي أصبحت أرضاً روسية،
فقد كانت هذه الأرض المسرح الذي ظهرت فيه معالم الرسالة التي تلقاها النظام السوري
في بداية الأزمة من الأم الكبرى روسيا بكل وضوح.
فقد إختار الروس توجيهها للغرب وعلى رأسهم
الولايات المتحدة على شكل صفعة على الوجه، بأن روسيا مستعدة للتدخل العسكري في أي
بقعة في العالم تكون فيها مصالحها مهما كلفها الأمر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبالعودة لعنوان المقال الذي تمنى علينا الكثيرون
أن لا يكون تشبيهاً لسوريا الحبيبة بأفغانستان الغارقة في الحروب والويلات والدمار
والدماء منذ عشرات السنين، كان لابد علينا توصيف الحال كما نراه بأعيننا لا بأحلامنا،
فكلنا كنا نتمنى أن لا تطول الأزمة السورية أو حتى لا تندلع على الإطلاق، وكنا ممن
يرى في الرئيس بشار الأسد الرئيس المتحدث اللبق، والسياسي المحنك الداعم للمقاومة
التي تقاوم الإحتلال في بلداننا العربية، وكنا نتفائل ونتمنى أن يترك لنا ولو
مجالاً واحداً للوقوف بجانبه وبجانب الجيش العربي السوري، الذي طالما تغنينا به
وبرجولة أبناء الشام وعزة وكرامة بنات الشام، لنفاجأ للأسف بمن إختار السقوط إلى
الأسفل، وليس لوحده، بل مع سوريا كلها معه ..!
لذلك كان علينا تذكير كل من يسعى لتحويل سوريا إلى
قمعستان أو سورياستان أن يتذكر بأن الحرب في أفغانستان لم تجلب نصراً لأحد، وبأنه لا
يمكن فرض الحل العسكري على مجتمع قبلي أو عشائري مهما طال مداه، وأن التدخل
الأجنبي سواء كان بالمقاتلين من الحرس الثوري أو حزب الله أو تنظيم القاعدة، أوغيرهم
من الجنسيات الأخرى التي فاق عددها 38 جنسية تتناحر على الأرض السورية اليوم لم
يكن حلاً لمشكلة يوماً، بل كان دماراً ووبالاً وزيادة للتعقيد في كل مشكلة يدخل
بين أطرافها.
هانحن نقترب من العام الرابعة وسوريا يشتعل باطن
الأرض وظاهرها فيها بكل ألوان الدم والنيران، وقد قلنا قبل ذلك بأن الحرب الأهلية
اللبنانية ستكون أختاً صغرى لما سيجري في سوريا، وغضب منا البعض يومها وإتهمونا
بالمبالغة، وهانحن نصل لمرحلة تجنب متابعة الأخبار أمام أطفالنا خشية الأسئلة
المحرجة أوالمشاهد المؤلمة، أوعن ذلك الطفل الذي لم يتجاوز عامه الثالث، الذي قال أنه
ذاهب إلى ربه كي يخبره كل شئ، يخبره عن ما رآه من تخاذل عن الذبح والقتل والتدمير
الذي عاش تفاصيله، وعن أهله الذين قضوا أمام عينيه قبل أن يلحق بهم سريعاً مستشهداً...!
واليوم نتمنى أن لا تتحول متابعة أحداث الأزمة السورية
إلى متابعة أحداث مسلسل يومية، كمتابعة أحداث مسلسل باب الحارة، ذلك الباب الذي
كتبنا عنه يوماً "عندما كسر باب الحارة"، والذي ذكرنا وهاهو يذكرنا
اليوم من جديد كيف كسر باب حارة وطننا العربي بأيدي أبنائه قبل أعدائه في كثير من
الأحيان للأسف.
وتبقى سوريا اليوم تائهة بين من يريدها "سورياستان"،
وبين من يسعى أن تبقى "قمعستان" غارقة في القمع والظلم والقهر لكل من
يطالب بحقه أن يكون إنساناً صاحب رأي وفكر، وفم ينطق برفض كل ماهو خاطئ، والشعب
المتعطش للعيش بكرامة وعزة في ظل العدل والإعتدال لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
(كمشة تراب من أرض بلادي أعيش عليها بكرامة وحرية
ومابدي شئ ثاني)، كانت إجابة لاجئ سوري في مخيم الزعتري خلال زيارتنا الأخيرة له عندما
سألناه عن ما يتمناه اليوم في حياته، وحق لهذا وأمثاله من أبناء سوريا أن تفخر بهم
كل حبة رمل من رمال سوريا الطاهرة، سواء من كتب عليه السكن في باطن رمالها جثة
ساكنة، أو من إحتضنوها بأعينهم وقد أخرجوا من ديارهم رغما عنهم، وبعد كل هذا يبقى التساؤل
الأكبر اليوم، ترى كم بيننا على قيد الإنسانية ممن هم على قيد الحياة !!!
وستبقى سوريا في أعيننا مهما تعرضت للظلم والطغيان
هي تلك التي أحببناها، البعيدة كل البعد عن قمعستان أو حتى سورياستان، تلك التي
أحببنا فيها الكرامة والعزة، أحببنا فيها ضيعة تشرين وغربة، وسنبقى نربي أولادنا
على "الله محيي شوارعنا يا بلادنا المنصورة" مهما غارت في القلوب جراح.
[COLOR=#FF0055]بقلم م. عبدالرحمن "محمدوليد" بدران[/COLOR]