الأول: ماذا فعلت البارحة؟
الثاني: ذهبت إلى بيت أخي من طريق مختصر عبر النفق الواصل بين الدوار الأول والثالث مباشرة.
يرد الأول: أين هذا النفق يا أخي ؟
الأول: موجود والوصول إليه سهل عبر الشارع المقابل.
الثاني: سامحك الله يا أخي، أنت مخطئ فلا يوجد نفق هناك، ثم أن هناك طريق مختصر أكبر عبر النفق الواصل بين الدوارين الأول والخامس ..!!
الأول: بلى النفق موجود وقد ذهبت منه، ثم أنني لست بحاجة لذلك الطريق الأكبر فمنزل أخي عند الدوار الثالث ..!!!
الثاني: ليس الحق عليك يا أخي بل علي أنا الذي يريد مساعدتك ونصيحتك ..!
يتجهم وجه الأول ووجه الثاني، وربما يتواصل النقاش ويتطور إلى جدال لا طائل منه، ثم يملأه الطرفان "سراً أو جهراً" بأنواع الشتائم، وإشارات الاستهزاء والاستخفاف والسخرية كل من الآخر ...!!!
صورة حية لكثير من الحوارات التي تدور بين أهلنا في بلادنا العربية، وهو الأمر الذي كانت نتيجته ما نراه من مشاكل ونزاعات دخيلة على مجتمعاتنا أصبحت تتكرر بشكل مزعج بين أروقة بيوتنا وشوارعنا وجامعاتنا للأسف الشديد.
أعوام تمضي تليها أعوام وسنوات العمر تتلاحق فيها الأحداث تلو الأحداث، وما زال الكثيرون يعتبرون الحوار بين الثقافات المختلفة زينة زائدة في بيوتهم كتلك الوردة الصناعية التي يضعونها في زاوية غرفتهم، أو حتى رجس من عمل الشيطان، برغم أن الحوار بين الأمم والثقافات المختلفة هو الأساس الذي يبنى عليه الاحترام المتبادل فيما بينها، والذي يعزز لدى كل طرف قبول الآخر كما هو وليس كما نريده نحن، فالبعض يعتبر قبول الآخر هو أن يكون كما يريد هو أو أن لا يكون أبداً في هذه الحياة !!
طبعاً مع وجود بعض من يدعون الحوار مع الآخرين، وهم في الحقيقة لا يسمعون إلا أصواتهم هم فقط، متناسين ما يوجد في رؤوسهم من أذنان خلقها لهم الله عزوجل للتأكيد لهم أن عليهم الاستماع للآخرين مهما بلغوا من العلم والمعرفة، وإلا لو كان الله عزوجل لا يريد لنا سماع الآخرين والاستفادة منهم لربما لم يخلق لنا آذاناً، أو حتى خلق لنا أذناً واحدة فقط ...!
من المهم أن نعود أنفسنا على الاستماع لآراء الآخرين، ومنحها ما تستحق من التقدير والاحترام، والتعامل مع الأمم والثقافات الأخرى كما أمرنا الله عزوجل، والذي لم يأمرنا يوماً بقتل وذبح وتخويف وترهيب، بل أمرنا بكل ما فيه الخير والصلاح للآخرين لنرتقي ونتطور ونستفيد من نجاحات الآخرين.
قبل أيام قليلة ونحن في الحرم المكي الشريف بادرنا للسلام على أحد أحبابنا من عمال النظافة وأخذ صورة معه، لنرى بأعيننا كم كان أثر ذلك عظيماً في النفوس، ثم بادرنا للتعرف على أحد الأحباب من مملكة ماليزيا وأخذ صورة معه، لنرى كيف غطت الابتسامة وجه الرجل من السعادة غير مصدقاً لما حدث، ثم أعدنا التجربة ذاتها في اليوم التالي في الحرم النبوي الشريف مع أحد الأحباب من عمال النظافة من الهند، وآخر من الحبيبة مصر الغالية التي تقطر دماً هذه الأيام.
ورأينا بأنفسنا كم كان أثر مثل هذه المبادرات الصغيرة عظيماً في نفوس الآخرين، برغم الألم والوجع الذي لمسناه في نفس صديقنا "المصري"، والذي شاركناه الدعاء أن يعيد الله الأمن والسلام والمحبة في جميع بلاد المسلمين، وسائر بلدان العالم، وينتقم من كل ظالم طغى وتجبر وأوغل في دماء الأبرياء.
وعلى من لا يصدق سطورنا أن يقوم بالتجربة بنفسه ليرى كم أن للابتسامة في وجه الآخرين والكلمة الطيبة سحراً لا يعرفها إلا من يتذوق طعمها، ولعل أكبر من جرب طعمها هو نبي الرحمة المهداة إلى العالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، والذي قال: (إن من البيان لسحراً) رواه البخاري، وكذلك المعنى العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: {إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق} رواه مسلم.
وتعالوا لنتفكر سوياً في روعة قوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} سورة النحل.
هذه الآية التي كلما مررنا بها ترسخ في داخلنا أكثر كم أن الله كريم لا يمكن أن يأمرنا إلا بأكرم الأخلاق، فلم يقل الله وناقشهم بالتي هي أحسن، بل وحتى جادلهم بالتي هي أحسن، أي أنك مطالب حتى في حال وصول نقاشك مع الآخر إلى جدال لا طائل منه أن لا تسئ إليه ولو بإشارة استخفاف أو استهزاء صغيرة ...!
ثم تأملوا كيف يلحق ذلك رب العزة بالقول: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، أي أن الله طلب منا أن نكون قدوة حسنة لغيرنا في ديننا وأخلاقنا الرفيعة فقط، ولم يجعلنا أوصياء على أحد، نحدد من هو المؤمن ومن هو الكافر، ونقيم حروب داعش والغبراء على عباد الله، نقتل هنا وننحر هناك لتقول بأننا أولياء الله على الأرض، فالله أعلم بمن ضل ومن إهتدى، فسبحان الله ما أكرمه.
هذا الأمر الذي لم يمنعنا ونحن في أقدس مكانين في هذا العالم مكة والمدينة قبل أيام، أن لا نقصر دعائنا لإخواننا المسلمين فقط، بل ولجميع شعوب العالم أينما كانوا ومن أي كانوا، أن يهديهم الله إلى الخير والصلاح، وينير بصائرهم، ويملأ حياتهم بالسعادة والأفراح، ويبعد عنا وعنهم الظلم والظالمين، ويأخذ لكل مظلوم ومستضعف حقه من كل ظالم في هذه الدنيا أوعندما يقوم الأشهاد، فهكذا تعلمنا في مدرسة حبيبنا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الأنبياء عيسى المسيح، وموسى عليهما السلام، وسائر أنبياء الله عزوجل.
ورحم الله عمر بن عبدالعزيز الذي قال لمن حوله يوماً: كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتين، قالوا كيف يا أمير المؤمنين: قال بأخلاقكم ....!
وفي الختام ومع كثرة المبادرات وتلاحقها نتمنى البدء في الأيام القادمة بمبادرة جديدة نبدأها من أنفسنا، وهي تقديم هدية صغيرة لكل من نتعامل معه في حياتنا، ولن تكون مكلفة فهي ليست أكثر من كلمة طيبة ترافقها ابتسامة محبة وصفاء فقط.
[COLOR=#FF0800]بقلم م. عبدالرحمن "محمدوليد" بدران[/COLOR]