في الزمن الماضي القريب كانت العائلة هي النواة الصلبة التي تدور حولها تفاصيل الحياة والمكونة من الأب “رب الأسرة ” و الأم “سيّدة البيت ” والأبناء بطبيعتهم امتداداً طبيعياً لتلك الأسرة المتماسكة، والتي تحتوي الفرد والمجتمع لم تكن المسؤولية على طرف واحد فقط بل كانت الأدوار موزعة وكلاً يعرف دوره المحدّد بكل صرامة ، و تُمارس الأدوار كما لو أنها قوانين فيزيائية لا تقبل التبديل والمرجع الرئيسي هو الأب هذا كله في الماضي.
أما ما نراه اليوم فمن وجهة نظري أنه مختلفاً تماماً عن السابق فالأب اليوم يقوم بدوره بناءً على مايتفق من مصالح بين الأب والأم والأولاد فلم تعد له الكلمة الفصل بل هناك تشاور وتحاور وأخذ ورد، فالضغوط الاقتصادية والتحولات الاجتماعية ، فرضت عليهم حسابات أخرى ومفاهيم جديدة تحتاج إلى استيعاب للمرحلة الجديدة.
الأم بدورها أيضاً لم تعد ربة بيت فحسب بل هي صانعة قرار في الأسرة وأحياناً قد تكون هي المعيل لهم وبقائها في المنزل إنما تفعل ذلك من موقع مختلف كخيار شخصي لها لا قدر محتوم عليها ولا فرض في هذا الزمن بالذات، فقد تغيرت تلك المفاهيم والأفكار السابقة وأصبح من الضروري المشاركة والتعاون والمحافظة على المسافات فيما بينهم ، لتستمر تلك العلاقات ولبقاء العائلة في دائرة الأب والأم بقدر المستطاع فكثير من المفاهيم تغيرت تماماً إلا القليل منها.
أما الأبناء فحكايات أُخر فهم أكثر استقلالًا منذي قبل فلم تكن حياتهم كما أسلافهم بل يعيشون في عالمٍ افتراضي بل أصبح البعض منهم أغراباً وهم بين أهليهم، فمفرداتهم مختلفة وثقافاتهم هي ماتعلموه عبر أجهزتهم ، وأحيانًا علاقاتهم لا تمر من خلال الأسرة فقط بل يربّيهم عالمهم الرقمي ، فقد يكونون داخل الجدران الأربعة ولكنهم في عالم آخر من السوشل ميديا والعالم الإفتراضي.
ماذا بقّى من العائلة هل فعلاً تآكلت أم أنها تعيد تشكيل نفسها من جديد وبصمت مطبق، مازلنا نرى بعض بقايا تلك العائلات ومازال هناك ترابط الى حدٍ ما ، لكن ليست العلاقات على مايرام أو كسابقتها وما يبدو لنا أن هناك تشكل جديد للعائلة وعلاقات من نوع آخر فرضته الظروف علينا ، وتلك التغيرات الكونية والاجتماعية والاقتصادية والعولمة التي فرضت نفسها على المجتمعات.
فالعلاقات العائلية لم تكن مؤسسة متماسكة يرأسها رب الأسرة بل تحولت بقدرة قادر إلى علاقات مرنة قوامها المصالح والأدوات والإمكانيات، فهي تحتاج دائماً إلى حوارات دائمة وتبادل للأدوار وتعاطف ووعيّ لمهام الآخر وفهماً لتحولات الإجتماعية ومراعاة أهداف كلاً منهم، ويبدو أن هناك تحرر من الكثير من الارتباطات والعلاقات على حساب مصلحة كل شخصٍ على حده ، فهناك تحديات تواجه الأب والأم وتغيرات حقيقية فلم يعد حماية الأسرة من التفكك الأسري فقط بل أصبح من المهم خلق رابطاً إنسانياً متوازياً مع هذه التغيرات للحفاظ على البقاء ما أمكن من العائلة القديمة.
ربما يتسائل البعض كيف نربي أبناءنا دون تكرار لتلك الأشياء التي كنا نفرضها عليهم ، حفاظاً عليهم وتحجيماً لتصرفاتهم في فترات معينة خوفاً من وقوع الأضرار عليهم أخلاقياً ومجتمعياً ، كيف نبني جسوراً من العلاقات بيننا قائمة على روح التعاون والود والمحبة والاهتمام بمصالح الجميع، فنظام العائلة الذي عايشناه في الماضي قد يكون في الإنعاش ولكن وفاته حتمية وقد يكون هناك ولادة جديدة لتشكلٍ جديد والتي قد نحتاج وقت لتتضح الصورة للجميع لنرى حتمية تلك التغيرات في الحاضر والمستقبل.
بقلم : عائض الشعلاني.