في زمنٍ تتسارع فيه العجلاتُ الصامتة، وتُختصرُ المسافاتُ بوميضِ الشاشات، تغيّرت ملامحُ القافلة.
لم يعُد “الرجلُ الرمادي” الذي كان يجلس على حافةِ المجلس، بيده عصًا من السدر، وصمتٌ من ذهب، هو أولَ من يُسأل…
بل صار طيفًا يُذكرُ في الهامشِ، إن ذُكر.
في الساحاتِ التي كانت تُفرشُ بالرملِ النظيف، وتُضاء بالقناديلِ لا بالكاميرات…جلس أهلُ الوادي ذات مساءٍ بارد، يتحلّقون حول كلماتٍ ليست لهم، تُقال بصوتٍ ناعمٍ لا يُشبهُ وجعَ الرمال، ولا أنينَ الرحيل.
و جوهٌ جديدة، تتأنقُ بالضوءِ لا بالمروءة، تُرتّلُ ما كُتبَ لها في كواليسَ مصقولة، صُنعت من الزيفِ لا من الطين، ومن اللمعانِ لا من الصدق.
كان المشهدُ غريبًا…الشاعرُ الجديدُ يعتلي المنصّة، يمدحُ بلا معرفة، ويتحدثُ باسمِ من لا يعرفهم،
وتُصفّقُ له أيدٍ لم تعد تفرّق بين القصيدةِ والصفقة، بين الكلمةِ والمزيف.
كانت أبياته تُلقى كما تُلقى الورودُ البلاستيكية: بلا رائحةٍ، بلا جذور… لكنها تُرضي العين.
وفي الزاويةِ القصيّة…
جلس الشيخ، ذلك الرجلُ الرماديُّ الذي يشبه الظلالَ في وضوحها، لا اسمهُ على بطاقة، ولا مقعدَ له في الواجهة.
لكنه كان يرى …كان يستمعُ إلى ما لا يُقال، و يقرأ ما بين السطور…
كانت الرمالُ تهمسُ له، و الرياحُ تنقلُ إليه ما لا يظهر على الشاشات.
ما حدث في تلك الليلة… لم يكن صدفة.
الأدوارُ أُعيد توزيعها، لا على أساس الحكمة، بل وفق خوارزمياتٍ تُصعّدُ مَن يُطيع، وتُقصي من يُفكّر.
الشاعرُ نجمٌ مفترض…
والمنصّةُ خشبةٌ زُيّنت، لا تُكرّم الحضور بل تُلمّع الواجهة.
والضوء… ضوءٌ زائفٌ من أجهزةٍ صفراء، تعيدُ تشكيلَ المجدِ كما تُعيدُ تلوينَ الصور.
الروايةُ لا تُهاجم ، لكنها تُحذّر.
لا تُشيرُ، لكنها تُشفّر.
لا تُجامل ، بل تُجسّد الواقع بقوالبَ رمزيةٍ تعيها العقولُ لا العيون.
الرجلُ الرماديُّ هو الحكمةُ حين تُهمّش…
والشاعرُ هو الواجهةُ حين تُفرغ من معناها…
والمنصّةُ صورةٌ من زمنٍ لا ينتمي لمن بناه.
وفي ختامِ المشهد…
غادر الجميعُ، وبقي الشيخُ يُقلبُ الجمرَ بعصاه…
نظر إلى السماء، ثم ابتسم…
كمنْ أيقن أنَّ الفجرَ لا يستأذنُ من الليل كي يأتي
تعليق واحد
النص يُنتقد بهدوء وذكاء التغيرات السطحية في المجتمعات الحديثة، خصوصًا في المجالات التي كانت تُبنى على الحكمة والعقل والصدق، مثل الشعر والمجالس الثقافية، ويرى أن الزيف قد يُسيطر مؤقتًا، لكن الفجر الصادق آتٍ لا محالة