من قلب الصحراء الممتدة، حيث الجفاف يعلّمك الصبر، و الرمال تحفظ أسرار القوافل، خرج “محمد” بخطى ثابتة، يحمل في قلبه لهجة البادية، وفي يده قلم صدق لا يعرف المساومة. لم يكن من أولئك الذين يتقنون فن التصفيق، بل كان ابن رنية، البلدة الواقعة في الجنوب الشرقي من منطقة مكة المكرمة، التي أنجبت من رحم القسوة رجالًا من ذهب.
نشأ محمد بين طين الجدران ونخيل السقيا المتقطعة، وبين دعاء الأم عند الفجر وهدير الريح في الليالي الباردة. علّمته الصحراء أن الكلمة لا تُقال إلا لتُصدّق، وأن العزة لا تُشترى. في طفولته، كان يرسم على الرمل ملامح وطن، ويسمع في صمت الجِمال معانيَ لا تُكتب.
حين كبر، لم يبحث عن الضوء، بل صنعه. كتب عن الريف الذي نسيه الناس، وعن القرى التي ذبلت في انتظار مشروع، وعن الشيخ الذي مات حسرًا وهو يطالب بمستوصف. أراد أن يكون صدى لصوت الغائبين، لا صدى للمتصدرين.
دخل عالم الإعلام لا من باب الشهرة، بل من نافذة الرسالة. رفض أن يكون بوقًا لأحد، واختار أن يكون مرآةً لأهله، وكلمةً من رملٍ نقشتها الشمس. لم تغره المناصب، ولا بهرته الألقاب. كان يدرك أن الحرف إذا لم يخرج من القلب، فمكانه الطيّ.
ومع مرور الزمن، بدأ اسمه يخبو، لا لضعفٍ فيه، بل لأن المرحلة تغيّرت، ووجوه الشاشة غدت مرآة لمظاهر بلا مضامين. أصبح محمد وكأنه لم يكن، بل في طيّ النسيان، من جيلٍ لا يعي نفسه، بل قابعٍ في غياهب الجيب، لا يُستدعى إلا عند الحاجة، ولا يُذكر إلا في الهامش، كما يُذكر الغيم بعد العطش الطويل.
ومع ذلك، لم يتذمر. عاد إلى رنية بصمت الواثق، لا يحمل في جيبه إلا أوراقًا صفراء كتبتها التجربة، وصوتًا صدَّحه في الصحراء حين كان الصدى صامتًا. لم يحتج إلى منصب، بل أسّس مجلسًا من ظلال الطلح، يعلّم فيه الصغار أن الصحافة ضمير، وأن الإعلام كلمة، لا سلعة.
في ختام الحكاية، لم تكن النهاية صامتة، بل كانت تشبهه تمامًا:
هادئة… شامخة… نقية.
ترك وراءه صوته في الرمال، وأثره في القلوب، وكلماته تُروى كما تُروى أخبار الأبطال.
لأن من يخرج من رنية… لا يضيع صوته، بل يسكن التاريخ