أحاطت بالطفولة عبر تاريخها الطويل مشاعر الحنان والشفقة والرعاية ممثلة في الوالدين، أو أحدهما، أو بعض أجداد الطفل، أو إخوانه وقرابته، بل قد ترعى الطفلَ قلوبٌ لا تصلها به سوى النزعة الإنسانية المتحضرة أو فطرة الرحمة التي وهبها الله مخلوقاته.
ولئن كان الحديث عن مظاهر العناية بالطفل وصنوف رعايته في الماضي والحاضر من الأهمية بمكان، كذلك كون الحديث عن الطفولة المعذبة التي قد يتعرض لها بعض الأطفال بحاجة لوقفات أخرى. فإن المراد بهذا الحديث استجلاء المفارقات الصارخة بين طفولة اليوم والأمس حينما كانت الجدة بالأمس تضطلع في بيئاتٍ عدة بالنصيب الأكبر من العناية بتربية الطفل سواء كان ذلك الطفل من ناحية ابنها أو ابنتها.
كانت الجدة تقوم بدور كبير يتمثل في عنايتها بصحة الطفل وتهذيبه وتربيته وتعليمه عاكسة عليه خبرتها وتجربتها، ولعل الكثير ممن أصبحوا اليوم أباءً وأمهاتٍ لازالوا يتذكرون الحكايات الهادفة التي كانت تجري على ألسنة الجدات في السرديات التي تنمي في نفوسهم الثقة بالله أولا ثم الثقة بالذات، ويذكرون قصصاً جميلةً عن الوفاء والأوفياء والبطولة والأبطال وخلالهم الحميدة من الحلم والصدق والأناة والشجاعة والسخاء وغيرها من منظومة مكارم الأخلاق التي يتشربها الأطفال مع لبن الأمهات ورعاية الجدات.
كانت الجدة إلى عهد قريب هي التي تعتني بصحة الطفل وما يتصل بها من الرعاية والوقاية والتداوي والمعالجة إضافة لما سبق الإشارة إليه من اضطلاعها بتهذيبه وتثقيفه، كما أن الجدة كانت هي المعلمة الأولى لما يعرف اليوم (بالإتيكيت) أي الآداب العامة؛ فهذه المفاهيم المكتسبة يتشربها الطفل ويتثقف بها من خلال حديثها العذب عن مآثر أسرته وقصص روادها وسلوكياتهم المتنوعة في حالتي اليسر والعسر والرخاء والشدة، بما يرسخ في مخيلته العبقرية والبطولة التي تنتظرها أسرته ومجتمعه منه باعتبار حياة كل إنسان قصة مفعمة بالمنجزات والنجاحات هو بطلها.
خلاصة القول: تلمح هذه الإضاءة إلى قيمة كبرى وهي أصالة تربية طفل الأمس التي تضيف إلى تنمية جسمه بحليب الأم المفعم بالحنان والشعور والحياة الروحية، الاعتزاز بقيم أسرته ومجتمعه وشعوره بهويته وانتمائه، قد تند عند هذا السياق بعض الحالات الشاذة كأن يكتسب الطفل من أسرته أو بعض أفرادها نوازع الجفاء أو خشونة التعامل أو نحو ذلك من السلبيات والنقائص، ولكنها تظل حالاتٍ شاذة.
أما اليوم في ظل المستجدات الزاخرة التي اقتحمت حياة الناس فإن تربية الطفل أضحت نزاعاً ونهباً لمعطيات متنوعة وربما متناقضة، فيها الخير، والشر، والحق، والباطل.
وبالنظر لدور الأم الحديثة في تربية طفلها وغياب دور الجدة وظهور الوسائل الجديدة البالغة التأثير على تربية الطفل: بدءاً بالحليب المجفف وانتهاء بأدوات الألعاب الإلكترونية وما تفضي إليه من العوالم الافتراضية، ناهيك عن انشغال الأم بأعمال إضافية زاحمت رسالتها الأساس في تربية طفلها مما جعل تربية طفلها بالنسبة لها ثانوية، وأحاقت بها إلى جانب ذلك الاتكالية ليس بارتماء طفلها في الأحضان التي ربما كانت البيئة التربوية الأنسب، بل في أحضان مربين غرباء عن طبيعته وفطرته وثقافة بيئته وجذوره، وفي كثيرٍ من الأحيان فإنَّ من تسند إليهم تربية الطفل أو الإشراف عليه ورعايته ليسوا على مستوى المربين، وإنما يحاط بخدم هدفهم الكسب المادي، تختلف طباعهم ومعتقداتهم وأفكارهم وأساليبهم في الحياة اختلافاً كبيراً عن بيئة الطفل وجنسه ومعتقده وثقافة مجتمعه الأصل، ومع إنه يستثنى من ذلك الروضات ودور الرعاية للفئات الخاصة لكون هذه المؤسسات وأمثالها لها مبرراتها ولها مواصفاتها التي يحتاط لها في العادة، ومهما تتخذ التدابير والاحتياطات فإن المعول عليه أولاً وأخيراً أسرة الطفل في رعايته وتهذیبه وتثقيفه ابتداء، فالأسرة هي المدرسة الأولى وبخاصة الأم.
ومن إبداعات أمير الشعراء أحمد شوقي قوله:-
والأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
عوداً على بدء يصح القول: بأن الطفل في أحضان الجدة يتعلم السلوكيات المنسجمة مع واقعه وبيئته وثقافة مجتمعه وتقاليده وعاداته، وفى أحضانها ينمو وهو امتداد طبيعي لشجرة ثابتة الأصل باسقة الفرع.
إضاءة: تربية الطفل بين الأم الحديثة والجدة


بقلم ـ إسحاق بن عبدالله السعدي

أضواء الوطن
- 07/05/2025
- 17415
شاركها
-
الأهلي يقصي الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلممنذ 3 أسابيع
-
“السماوي”.. يواصل سلسلة الانتصاراتمنذ أسبوعين
-
عبدالله ابومحمد.
النص يُنتقد بهدوء وذكاء التغيرات السطحية في المجتمعات الحديث...
-
عبدالله
الذهب يابى الا ان يكون ذهبا من بعضه ذهبا....
-
اسماعيل محمد
كلام رائع في حق الملك عبد العزيز، ومهما قيل فانه لا يكفيه حق...
-
محمد سحاري
جزيت خيراً دكتور زيد مقالة جميلة كتب الله اجركم...
-
صالحه حمد ان خلف
نشر...
أخبار المجتمع