الديّات ليست للمزايدات ورفع بورصتها إلى ملايين الريالات، بل هي إلى تقنين المبالغ أقرب عند الرغبة في التنازل عن القصاص في قضايا القتل العمد أو الخطأ، يمنح الشارع الحكيم لأولياء الدم فرصة، وخيار القصاص أو العفو مع أو بدون مقابل مادي (الديّة) ، وقد شُرعت هذه البدائل لتحقيق المصلحة العامة وإحياء نفس مسلمة، وللعدالة وإتاحة مساحة للصفح والعفو المحقق لذلك، وليس للمساومة أو استغلال حاجة الناس وضعفهم أمام موقفهم الصعب، ولحظات الحزن والألم والغصة لتحقيق ملايين الريالات.
واقع الحال عند بعض القبائل وبدأ انتشاره حتى لدى من لم تكن هذه المبالغ في حسبانهم، ولا بين أفراد قبيلتهم، حيث يكتفون بالعفو مقابل أموال مقدور عليها، لطلب ماعند الله، ولكن الأغلب من هذه الديات خرجت عن روح التشريع الإسلامي، فأصبحت بعض الديات تُطلب بمبالغ فلكية تفوق قدرة أهل الجاني أو حتى قدرة المجتمع والقبيلة، على التدخل فيها مما يُفرغ مبدأ العفو من مضمونه الإنساني وروح الأخوة الإسلامية، ويحوّله إلى مزاد مؤلم على حياة إنسان آخر يموت في يومه مئات المرات وكذلك ذويه وأمه وأبيه.
تحديد الديات من قبل شيوخ وأعيان وأهل الحل والعقد وكبار القبيلة ورجال المال والأعمال بمبالغ معقولة ومحدودة، مطلبًا شرعياً بل ضرورة مجتمعية تُعيد التوازن للعلاقة بين العقوبة والعفو، فلا يعقل أن تصل دية التنازل عن القصاص إلى عشرات الملايين، بينما الشرع جعل للديّة مبالغ معينة لا يُبرر تجاوزها، إلا بشروط محدودة يحددها الشرع والنظام، ومع ذلك فلا نرى رادعاً لمثل هؤلاء بما ينصه النظام لإيقاف هذا العبث.
إنا هنا لا نقلل من حق أولياء الدم في الغضب والحسرة والمطالبة بحقوقهم ، ولا أجبر أحدًا على التنازل والعفو فذلك حقٌ أصيلٌ لهم كفله الشارع الحكيم وقوة النظام، لكن حينما يختارون أولياء الدم العفو والتنازل مقابل الديّة فإن من العدل والإنصاف أن تُضبط الأمور بنظام معين قانوناً ومجتمعياً بشكل واضح ومشهور، يمنع المزايدات ويراعى في ذلك القدرة المالية للأطراف، ويبقى الباب مفتوحًا للعفو النبيل بلا شروط تعسفية أو جشع.
ومن وجهة نظري أنه حان الوقت للتدخل الصريح بتحديد سقفًا أعلى للديات في قضايا القتل مع وجود تدخل للسلطات القضائية لتقدير الحالات، الاستثنائية، ومن خلال مقالي هذا فإنني إنني أُهيب من شيوخ القبائل أن يبادروا إلى الاجتماع لتحديد الديات، وفرض الالتزام بها على أفراد قبائلهم على أن يُعدّ هذا المبلغ فاصلاً في القضية، وفي حال رفض أولياء الدم قبول ما تم الاتفاق عليه فإن موقف القبيلة شيخًا وجبراً يجب أن يكون ذلك واضحًا وصريحاً بعدم مؤازرتهم أو الوقوف معهم في حال من الأحوال، لا في شأن القبيلة أو القبائل المجاورة، لا بشأن خاصٍ ولا عامٍ، ولا يدعون في حضور ولا يُحضر لهم ليكون ذلك رادعاً للجشع والطمع، وإستغلال المواقف والظروف، وكل ذلك حرصًا على وحدة الصف ومنعًا للفتنة مهما كانت الظروف فمصلحة القبيلة وحقن الدماء فوق كل اعتبار.
كما ينبغي الاهتمام بالتوعية والإرشاد بأن العفو له قيمة في الدنيا والآخرة والأجر عند الله عظيم، وكلما قلة الديّة كلما تعاظم الأثر الإنساني وعم الود والوئام بين المجتمعات، و بين فوضى العاطفة والمشاعر وسوق الديات والمبالغات يجب أن يبقى العدل والإنصاف ومخافة الله والطمع فيما عنده سبحانه، هو المعيار الحقيقي لا القدرة والمنافسة على الدفع أكثر.
بقلم : عائض الشعلاني.