تعد السيارة التي تعمل بسلاسة إحدى متع الحياة، فهي تمكنك من الوصول حيثما تريد وفي الوقت المحدد، وبدرجة كبيرة من الثقة، وغالباً ما تصل إلى وجهتك بأسلوب أنيق، مع تكييف يحافظ على راحتك، ونظام عالمي لتحديد المواقع يرشدك إلى طريقك. فنحن نخطط لمشروعات حياتنا، بافتراض أن السيارة جزء مهم من بيئتنا المحيطة. ولكن عندما تتعطل سيارتك، سوف تتوقف حياتك بالمعنى الحرفي للكلمة.
وإذا لم تكن شغوفاً بالسيارات ومزوداً بتدريب تقني، فستجد نفسك معتمداً على شبكة من سائقي أوناش الإنقاذ والميكانيكيين وتجار السيارات وكثيرين غيرهم. وعند مرحلة معينة، تقرر استبدال سيارتك القديمة المتهالكة بصورة متزايدة وتبدأ بداية جديدة مع سيارة ذات طراز حديث. وتستمر الحياة.
ولكن ماذا عن المنظومة الضخمة التي تجعل كل هذا ممكناً، الطرق السريعة ومعامل تكرير النفط ومصنعي السيارات وشركات التأمين والبنوك...؟ لطالما كانت مسيرة حضارتنا تسير بسلاسة لآلاف السنين. لكن هل يمكن أن تتعطل المسيرة؟ أجل، يمكن ذلك. وعندئذ إلى من يمكننا الرجوع ليساعدنا في العودة على الطريق الصحيح مرة أخرى؟ لا يمكنك شراء حضارة جديدة إذا انهارت حضارتك، ومن ثم حري بنا أن نحافظ على مسيرة حضارتنا.
إذن, من هم المصلحون الموثوق بهم إذن؟ الساسة، القضاة، رجال البنوك، رجالات الصناعة، الصحفيون، أساتذة الجامعات!! باختصار قادة مجتمعنا أشبه بالسائقين العاديين أكثر مما قد تظن أنت، فهم يسهمون بنصيبهم على المستوى المحلي لتحفيز الترس خاصتهم في الآلة بأكملها, بينما يسعدون بجهلهم بالتعقيدات التي يعتمد عليها النظام بأكمله. والرؤية الضيقة التفاؤلية التي يعملون من خلالها، ليست كما يقول بول سيبرايت أستاذ الاقتصاد البريطاني المدرس في معهد الاقتصاد الصناعي وجامعة تولوز الفرنسية في كتابه (رفقة الغرباء تاريخ طبيعي للحياة الاقتصادية)، خللاً مؤسفاً في النظام وقابلاً للتصحيح، وإنما هي ظرف موات.
وعند نقطة معينة، يقارن سيبرايت حضارتنا بمستعمرة للنمل الأبيض. فكلاهما عبارة عن تحفة فنية، معجزات من التصميم البارع مرتكزة على تصميم بارع آخر، تعلو بشموخ فوق سطح ارتكاز، مجهود عدد هائل من الأفراد الذين يتفاعلون معاً في تناغم. ولكن ثمة اختلافات عميقة. فالتعاون الإنساني هو ظاهرة دقيقة واستثنائية، تختلف تماماً عن التعاون شبه الغافل بين أفراد النمل الأبيض.
لذا, يرتب سيبرايت عالمنا الاقتصادي قطعة تلو الأخرى، موضحاً سبب وجود المال والبنوك والشركات والتسويق والتأمين والفقر وانعدام الاستقرار، موضحاً أيضاً كيف تتولد المعلومات، وتستخدم وتستغل في هذا النسيج الاجتماعي المعقد.
كتاب رفقة الغرباء لفت الانتباه، إذ كان بمثابة دعوة للتفكير بطريقة جديدة. ومثل كتاب جارد دايموند (الأسلحة والجراثيم والفولاذ)، يتسم هذا الكتاب بطموح جريء، إذ يستند إلى مجموعة دراسات مبهرة من علوم شتى، كالتاريخ وعلم الأحياء وعلم الاجتماع وعلم النفس بالإضافة إلى علم الاقتصاد، ويتحدى التصورات الضيقة الأفق للمفكرين في كل هذه المجالات، مستفيداً في الوقت نفسه من نتائج أبحاثهم استفادة كبرى.
كتاب سيبرايت هو العرض الأوضح والأكثر إقناعاً، لتأثير التفكير الاقتصادي وأهميته، كما يعد كتاباً تمهيدياً مثالياً عن علم الاقتصاد، إذ يخلو من المصطلحات المعقدة، ويتضمن تفسيرات سلسة ومفعمة بالحيوية لجميع المفاهيم الأساسية.
فكر مرة أخرى في مستعمرة النمل الأبيض. يمكننا نحن، البشر المراقبين، أن نقدر تميزها وتعقيدها بطرق تفوق قدرات الجهاز العصبي لسكانها من النمل. كما يمكننا أيضاً أن نطمح إلى بلوغ منظور سام مماثل في عالمنا الاصطناعي، وهو إنجاز لا يستطيع تخيله سوى البشر. ومن ثم، علينا أن نعيد التفكير في الأمر برمته، بدءاً من أول المبادئ. وتلك هي المهمة التي يضطلع بها كتاب رفقة الغرباء المهم جداً..
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية