عندما أُريدُ الكتابةَ في أيِّ موضوعٍ، يخطرُ في ذهني، تتقاذفُني أمواجُ التساؤلات المُمِضَّة المُتكرِّرة! إلامَ هذا؟ وكُلُّ شيءٍ قد كتبَ فيه الناسُ وأخذوا وأعطوا، ولم تُبْقِ جَهِيزةُ خطبةً لخطيبٍ ولا مقالاً لقائلٍ، بعدها يثوبُ إليَّ رُشْدي المعهودُ! وأتداركُ ما فات وأبدأ بما هو آت.
ولكن لايزالُ الأدبُ يأخذ بمجامع قلبي أينما وجهتُ وجهي، وتطربني الأشعارُ وأُردِّدُها وأهتز لأريحيِّة الكرماء، وهذا الموروث الأدبيُّ ليس من الترف الفكريِّ الذي يكون عنه مندوحةٌ بل هو الوجه الحضاريُّ للأمَّة العربية والإسلامية لارتباط الشعر بالوحي بجامع اللِّسان والبيان الذي نزل فيه مُحكم التنزيل، وفوق هذا فإنَّ الشعرَ لا يجفل عنه إلا من لا تَهزُّه مكارمُ قومِه ومآثرُهِم.
فإنْ أهلِك فقد أبقيتُ بعدي
قصائدَ تُعجِبُ المُتَمَثِّلينا
لذيذاتِ المقاطعِ مُحكماتٍ
لو اْنَّ الشِّعرَ يُلْبسُ لارْتُدِينا
مِمَّا مضى، تتشكل في الذهن بذور الأفكار لأي مشروع كتابي يحفُّه الأدبُ كما أسلفتُ، ولا أجدُ فيما أجدُ أشدَّ ارتباطاً بالأدب من المذكرات والتي هي لونٌ من ألوان الأدبِ بل هي من أجناسه المعدودة ولذا فهي محطتي التي أتفيأُ ظلالَها في أوقات الهجير.
وفي أثناء تقليبي لكتب المذكراتِ وقعتُ على مذكرات للأديب الفلسطيني الكبير حسن الكرمي (ت2007م)، وفي أحد فصول هذه المذكرات أعجبتني لفتةٌ رائدةٌ له وهو يتحدَّثُ عن القراءة بنظرة فاحصة واستبصارٍ نادر يقول: "والقراءة كما هو معروف تزيد من معلومات القارئ لكنَّها لا تزيدُ من فهمه لتلك المعلومات ولا من ربط بعضِها ببعض، لأنَّ ذلك يحتاج إلى صفة عقلية خاصة في القارئ لا تتوافر في الكثيرين".
فهذه طرائقُ العقول النَّابهة الذوَّاقة التي تُغربِلُ المقروء، وتأخذه بكل الوجوه وبشتى الوسائل لتصدُرَ عن رأيٍ وتجربةٍ تملأُ الزمان والمكان، ولكنَّ هذه القراءة دونها أخذُ المرء نفسه بشيءٍ من الدرس والصقل والسبر إن صحَّ التقدير.
وكتب المذكرات هي معدن التجارب وفيها اقترابٌ من الواقع وعصارات ومكاسب لا تكاد توجدُ إلَّا فيها، وكان موعدي الآخر مع سيرة ذاتية للدكتور حيدر الغدير (بقايا ذاكرة) وأكثر ما أثارني فيها فصل الخلوة أنقل كلاماً منه في غاية الحُسن وفيه فوائد للخلوات ولتصحيح المسار ويقول فيه: "الخلوة المعتدلة الإيجابية، تُعينُ صاحِبَها على النَّجاة من أخطاء (العقل الجمعي) الذي يقع فيه الكثيرون، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وأهمّها أن الإنسان يفكر كما يفكر الآخرون، ويعمل كما يعملون، دون أن يمعن النظر في خطأ ذلك وصوابِه، فكأنَّه رهن عقلَه لعقولهم، وإرادتَه لإرادتِهم، وهو ما يسميه بعضُهم، (عقلية القطيع) حيث تمشي الأغنام مشياً غريزيَّاً أعمى وراء أوّلها الذي يقوده مثنى أو فرادى، للتفكر أو التدبر".
وهذا واقع اليوم يُساق الناسُ فيه بحبالٍ من الأوهام لا حقيقةَ لها، وإنَّما هي رجسٌ من عمل التافهين وأحابيل المتربصين تزول أوضارُها عند تعرُّضِها لحرارة الصدق، النابع من اللجوء إلى الله.
سالم صعيكر البلوي