يقول نايجل هاريس في كتابه الرائع الاقتصاد العالمي في أزمة : إن العالم الحقيقي هو نظام عالمي وليس نظام قرية.
لذا فإن تعقيدات الفعاليات المتشابكة لا يمكن حصرها وهي تشير إلى نقص تصوراتنا عن البلدان الصناعية ونشاطاتها, ولا تستطيع هذه النشاطات أن تتوافق مع المفهوم المعروف في كل من البلدان الصناعية بالاقتصاد الأسود كما في بريطانيا او بالاقتصاد الخفي كما في أمريكا او بالعمل الأسود في فرنسا وألمانيا.
إن نمو او اكتشاف الاتجار بالكادحين مسجل بوثائق داخل المناطق المركزية الصناعية. كما أن وجود قطاع خفي في الاقتصاد قد قطع شوطا لا بأس به حيث ساعد المحللين الاقتصاديين على تفسير عدد من التناقضات الظاهرية: الانجاز القوي للاقتصاد الذي يعاني من إفلاس الصناعة على نطاق واسع، وظهور مستويات عالية نسبيا من الازدهار إلى جانب الركود الرسمي.
ومن ثم، فهناك تحبيذ عام للعمل على نطاق ضيق في العالم الصناعي سواء أكان هذا سببا أم نتيجة.
وقد قامت الحكومات بإجراءات متواضعة لتساعد العمل الصغير، وكانت هناك مقترحات لإيجاد مناطق لصادرات هذا الأسلوب الصناعي في البلدان الصناعية.
وكان من المأمول أن تكون مشاتل محمية للعمل الصغير بدل أن تكون ملاذا للفروع الصغيرة التابعة للصناعات الكبرى, إن الاقتصاد الأسود، الاتجار بالكادحين يعمل خارج سيطرة او حتى مشاهدة الدولة وحجمه وتركيبه وتنوعه مع الزمن غير معروفة، ويبدو أنه من تأثير قطاعات تتلاءم بطبيعتها مع الأشكال السائدة من المنافسة داخل النظام العالمي وهي ليست بإيعاز اقتصاد وطني.
إنه نظام رأسمالي خاص بالرغم من أنه يعتمد على سرقة موارده من القطاع العام، فهو يعمل بشكل مستقل عن رقابة الدولة.
في إيطاليا يُدعى انتاج العالم الثالث وهذه التسمية تسترعي الانتباه ليس فقط لأن المهاجرين هم الذين يمدون الاقتصاد الأسود غالبا بالرجال في بعض أقسام المناطق الصناعية ولكن لأن وراء النطاق الضيق للبلدان الصناعية يقع عالم يسكنه ثلثا البشر حيث الاتجار بالكادحين ليس صفة سرية في النظام بل هو عنصرها الرئيس, حقا، إن الغالبية الساحقة لقوة العمل في العالم خارج الزراعة كانت منخرطة في مهن الكادحين.
إنها عملية شبيهة بقفز الضفادع حيث وصلت بعض البلدان النامية أولا لتجد أن قاعدتها الانتاجية التي بدأت بها قد تحركت إلى قطاعات أخرى إذ تغيرت سرعة النشاط الاقتصادي.
والشركات الدولية المتواضعة في مناطق التجارة الحرة كان بودها أن تكون كثيرة الحركة حسب تنوع التكاليف وهي لم تكن واقعة في فخ حكومات معينة ولا عديمة الحركة في توضعها في المنطقة الحرة.
إن جزءا من هذا العالم هو اقتصاد أسود ولكن معظمه أبيض أو رمادي على الأقل، وهذا لا يعني بأن الاسود غير مشروع او معترف به علنا فالاقتصاد الأسود هو من اختراع المناطق الصناعية في العالم وهو استجابة السوق الى نظام ضريبي خاص في الاقتصاد الموجه.
والأحرى أن يكون وطنه الطبيعي في قلب مهن الكادحين في البلدان النامية، حتى لو أعطي اسما حياديا كالقطاع غير الرسمي .
لقد ازدهر الاتجار بالكادحين بينما أولئك الذين لا يتطلب عملهم كدحا كسد حقهم. وحين ازدهرت مهن أولئك الكادحين اندمجت في نظام الانتاج العالمي في مرحلة جديدة.
فاخترعت السيارات العالمية بمبادرة من فورد وجنرال موتورز، وصنعت أجزاؤها في البلدان النامية كلها، وبناء السفن والآلات العامة ومجموعة واسعة من الكيميائيات لم تعد مقتصرة على المناطق المركزية.
ولو أن العملية استمرت لأدت إلى تغير مذهل في التوزيع الصناعي.
ولكن كان هناك كثير من العوائق وليس أقلها الحجم المخيف من الديون المتراكمة وحوافز الحماية الجمركية في البلاد الصناعية, ولكن إذا أمكن تجاوزها، فإن معدلات الربح العالمي قد تستمر.
إن الفجوة بين الأفعال العلنية والحقيقة المستورة هي نفسها في كل البلدان ونفسها في كثير من الأبعاد المختلفة.
إن مجمل الانتاج المحلي قد يقفز قدما ولكن الأرقام لا تتحدث عن عدد الناس الذين يعملون وكم منهم لديهم دخول محتملة. إن كل النمو في العالم لم يشبع كل الجياع وحتى في البلدان الصغيرة.
فالغالبية تمارس حياة في غاية التقشف فالدخول بالنسبة لمعظم الناس متدنية والعمل طويل وشاق.
إن أشخاصا بأعمار عشرة أعوام أو أكثر قليلا كانوا يعملون 15 ساعة أو أكثر في اليوم, وأكثر من نصفهم يعملون 54 ساعة في الأسبوع.
يقول روبرت بورتنر في مقالته كدح الأطفال وما ينشأ عنه من مشاكل أن ما يقرب من 36000 طفل تحت سن الرابعة عشرة يعملون و25000 منهم بدوام كامل.
إن أرقام الذين تحسنت أحوالهم كبيرة ولكن بالنسبة للمحتاجين صغيرة.
فمازال معظم الناس في الدول النامية يمشون حفاة، ولا يجدون ما يستر عوراتهم، ويتكومون نياما على الأرصفة وفي أكواخ بالية تعصف بها الأرياح وتسقطها الأمطار ولم يتبدل في العالم شيء.
لذا , فليس كافيا أن نقول إن التغييرات تحتاج إلى وقت.
لقد مرّ عصر، أعمار بكاملها قد انطوت فمثل هذه التطمينات تصدق أكثر لو أن الزمن كان كافيا لينهي الفقر حتى من أراضي المراكز الصناعية.
فهذه هي البلدان المصنعة حديثا، أمثلة على التطور الاقتصادي فبالنسبة للبلدان النامية فإن أربعين عاما تقريبا من التطبيق المستمر للتقنية الاقتصادية في فترة عرفت أسرع نمو، تركت مع ذلك عددا هائلا من الناس، 800 مليون أو ثمن سكان العالم تقريبا لا يمارسون تحسنا في جوهر حياتهم.
إذن ما هي تجربة التنمية الاقتصادية في فترة الازدهار الكبير؟! إن تصور التنمية الاقتصادية الوطنية هي من اختراع الخمسينات وهي تتضمن على الأقل ثلاثة عناصر: نموا ذاتي الدعم في رصيد البلاد وتغيرا مستمرا في بنية الانتاج وكل هذا على أساس وحدة اقتصادية وطنية.
ختاما أقول إن التفسيرات في المجتمع الاقتصادي ليست إجابات على مشكلة، ولكنها أسلحة في قتال، وهي أساس التحبيذ أو اللوم، فدراسة الاقتصاد له ثقوب سوداء ولكن هذا ليس بسبب عمى الاقتصاديين بل بسبب عمى النظم الاجتماعية المعاصرة لأن التعامي يقوم بوظيفته في حماية الوضع القائم والدفاع عنه.
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية