إن الأرقام حقاً مذهلة. فإجمالي عدد سكان العالم يبلغ اليوم أكثر من 8 بليون نسمة ومن المتوقع أن يتزايد هذا الرقم خلال هذا القرن.
إن أسباب وآثار النمو السكاني كليهما ((متشابك)) مع كتلة معقدة من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وإذا كان هناك تعميم واحد يمكن استخلاصه من الحقائق والآراء الوفيرة التي تقدم لنا فهو: أن النظرة التقليدية عن السكان والاستهلاك والبيئة نظرة خاطئة في أغلب الأحوال.
فعلى سبيل المثال.
تعتبر النظرة التقليدية أن النمو السكاني هو المسؤول عن الهجرة المتزايدة من البلدان الفقيرة في الجنوب إلى البلدان الصناعية في الشمال. ولكن كما تشير هانيا زلوتنك في مقالها: ((الهجرة الدولية: أسبابها وآثارها)) فإن الدول الفقيرة والتي بها أعلى معدلات النمو السكاني ليست هي الدول التي ترسل أكبر عدد من المهاجرين إلى العالم المتقدم.
ولهذا فإن النمو السكاني السريع ليس سبباً للهجرة على الرغم من أنه أحد العوامل العديدة المتشابكة التي يمكن أن تتسبب في تدهور نوعية الحياة وبذلك توجد حافزاً للهجرة.
كذا فإن النظرة التقليدية الأكثر انتشاراً والمضللة هي التي تنادى بأن النمو السكاني السريع يؤدي حتماً إلى التدهور البيئي. حيث إن عدداً أكثر من البشر يستهلكون موارد أكثر وينتجون نفايات أكثر. والنظرة السريعة للبيانات يبدو أنها تؤيد تلك المعادلة.
فإن الفروق الشاسعة في الاستهلاك مؤشر على أن بعض الشعوب لها تأثير أكبر بكثير على البيئة من غيرها. إن الدول الصناعية في الشمال والتي يقطنها 25 في المائة فقط من سكان العالم تولد حوالي 4/3 جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
ولهذا وإذا أخذنا في الاعتبار تغيرات المناخ التي تحدث في العالم، فإن الاستهلاك في الشمال يشكل تهديداً أكثر من النمو السكاني في الجنوب.
وعلى المستوى العالمي، نجد أن الظلم لافت للنظر إلى حد بعيد. إن الخمسة وعشرين في المائة من سكان العالم الذين يعيشون في الدول المتقدمة يستحوذون على 85 في المائة من جميع منتجات الغابات التي تستهلك و72 في المائة من إنتاج الصلب و75 في المائة من الطاقة المستخدمة.
كما تنتج الدول المتقدمة أيضاً 75 في المائة من العبء العالمي من الملوثات والنفايات.
وكلما ارتفعت مستويات المعيشة في العالم النامي كلما زاد تأثير البيئة بالنسبة لكل فرد. إن هذا السيناريو يمكن أن يسبب دماراً أكثر للبيئة ما لم توضع الأساليب التكنولوجية والسياسات الملائمة في موضعها لكي تمنع هذا الدمار.
تقول لوري مازور في كتابها ما وراء الأرقام : إن الحد من استهلاكنا من الطاقة إلى النصف يمكن أن يحسن ويخفف من وطأة كثير من مشكلات البيئة – من المطر الحمضي إلى التغيرات في المناخ.
ومثلما يمكن للنمو السكاني أن يحقق التوازن بين التحسينات في نوعية البيئة فإنه يمكن أن يؤخر التنمية الاقتصادية والاجتماعية – أو هكذا تقول النظرة التقليدية عن البيئة. ولكن العلاقة هنا أيضاً معقدة أكثر مما يبدو.
فهل تسبق التنمية استقرار السكان أم تتبعها؟ سيظل هذا السؤال مثل لغز الكتكوت والبيضة في علم دراسة السكان.
ويجادل بعض الاقتصاديين أن النمو السكاني يمكن أن يخدم التنمية وذلك بتحسين اقتصاديات إنشاء البنية الأساسية على سبيل المثال. ولكن ليس هذا هو الوضع الحالي في البلدان النامية في الجنوب حيث تسعى الحكومات لتوفير الخدمات والوظائف لأعداد السكان المتزايدة باستمرار.
ويقدر صندوق الأمم المتحدة للإسكان أن هناك الآن نصف بليون شخص في البلدان النامية يعانون من البطالة . وهذا الرقم يعادل القوة العاملة بأكملها في البلدان الصناعية. ولكي توفر سبل المعيشة لعدد السكان المتزايد فعلى الدول النامية أن توجد حوالي 30 مليون وظيفة جديدة كل عام.
وهكذا يخلق النمو السكاني والتخلف دورة تتجه إلى أسفل حيث ((يمنع النمو السكاني التنمية التي يمكنها أن تبطئ من النمو السكاني)) كما يقول ناثان كيفتز.
إن دورة النمو السكاني والتخلف التي تتجه إلى أسفل تشترك مع الإجهاد البيئي لخلق ما أطلق عليه جيمس جرانت– التسلسل الحلزوني الفقر – السكان – البيئة. فالفقر يؤدي إلى النمو السكاني. والنمو السكاني بدوره يمكن أن يساعد على استمرار الفقر عن طريق إعاقته للتنمية.
والإجهاد البيئي هو سبب ونتيجة الفقر والنمو السكاني على حد سواء.
والنتيجة – كما كتب جرانت – هي ((سحب الفقراء في دوامة يجبر فيها الفقر الأعداد المتزايدة من الناس إلى اللجوء إلى المناطق القابلة للتعرض للتدهور البيئي ويكون الإجهاد البيئي الناتج عن ذلك سبباً آخر أيضاً لفقر هؤلاء الناس...)).
وتعد المشكلات التي يسببها تسلسل الفقر – السكان – البيئة نذيراً خطيراً إذ يمكن أن تؤدي أيضاً إلى الحروب وعدم الاستقرار الاجتماعي.
لقد شهدت فترة التسعينات ظهور الاهتمام من جديد بقضايا السكان.
ولكن خبراء البيئة لم يلقوا ترحاباً فحكومات الدول النامية تبدى استيائها من التركيز على النمو السكاني باعتباره سبب التدهور البيئي في حين أنه من الواضح أن الاستهلاك في الشمال هو المسئول إلى حد كبير.
ومن ثم فلن ينجح أي برنامج يهدف إلى حماية البيئة العالمية دون تعديل للطرق التي يتم بها استغلال الموارد في العالم المتقدم. وكما كتب آلان دورننج في مقال ((مشكلة الاستهلاك العويصة)) إن البيئة العالمية لا تستطيع أن تعول 3 بليون من سكانها الذين يعيشون مثل المستهلكين الأمريكين. فما بالنا بـ 8 بليون شخص أو إعالة 10 بليون نسمة على الأقل في المستقبل.
إن الجهود من أجل خفض الاستهلاك يجب أن تعمل على أربع مستويات على الأقل.
أولاً يجب أن تدرس البنية الأساسية للحياة في المجتمعات الصناعية وتشجع التكنولوجيات المتواصلة مثل الطاقة الشمسية ووسائل النقل العامة وإعادة تدوير النفايات.
ثانياً يحب أن نتأكد من أن الأسواق تعكس الواقع البيئي. يقول تيموثى ويرث ((إن عالم التجارة قد أصبح مشوهاً بالإعانات المالية وأنظمة بالية وقديمة للحسابات والتي فشلت في إدماج إما التكاليف البيئية الحالية أو الاحتياجات الاقتصادية للغد)).
ثالثاً، يجب أن نتغلب على ظاهرة الاستهلاك فإننا لا نستطيع أن نبنى عالماً متواصلاً باقتصاد يوجهه تخطيط عفى عليه الزمن، في مجتمع أصبح مشبع بالإعلانات ويشجعنا على تحديد هويتنا عن طريق ما نختاره من السلع الاستهلاكية. وسيتطلب هذا التغيير ليس أقل من تحول ثقافي نموذجي وهو كما يعبر عنه آلان دورننج أن نتجه نحو ((الكفاية بدلاً من الإسراف)).
رابعاً. وأخيراً فإننا لن نخفض معدل استهلاكنا فعلياً ما لم نعد التفكير في تركيزنا على النمو.
وفي الواقع فإن على التنمية المتواصلة أن تركز وتعطى أهمية بدلاً من ذلك على التحسينات النوعية في الطرق التي يتم بها استخدام الموارد وتوزيعها.
ولن يتوقف التسلسل الحلزوني لمشكلات الفقر – السكان – البيئة والمتجه إلى أسفل طالما أن خُمس البشر يعيشون في فقر مدقع.
إن التخفيف من حدة الفقر سيحتاج إلى تغييرات جوهرية في اقتصاد العالم: نظام عادل ومنصف للتجارة العالمية، حكومات مسئولة وسريعة الاستجابة في دول الشمال والجنوب، تخفيف عبء الديون الملقاة على عاتق البلدان النامية واستثمارات متجددة في التنمية الاجتماعية بما في ذلك التعليم والصحة.
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية