كان التفاؤل ضئيلاً بين مناطق العالم حينما رسم البحَّارة خريطة الكرة الأرضية، وقاموا بتقسيمها، والآن أطلقت المجتمعات ما بعد الصناعية في نصف الكرة الشمالي تقنيتها إلى الفضاء، بينما نجد العالم النامي أسفل خط الاستواء يصارع الجوع والجفاف، والديون والتخلف: آفات العصر. ولا تزال معظم السياسات المتبعة في مجال التعاون الدولي غير قادرة حتى الآن على تغيير حقيقة بارزة تتمثل في أن نصف البشرية لا يزال يعيش الفاقة.
لقد تغيَّرت أُسس الحوار أو المواجهة بين الشمال والجنوب، حتى إن الأزمات والصراعات الاقتصادية التي تهزُّ النصف الجنوبي للكرة الأرضية اكتسحت الحواجز التي تحمي الشمال. إن المأزق الذي يواجه النصف المتخلِّف من العالم يشكِّل أولوية سياسية، وهو في الوقت ذاته يحتل مركز الصدارة فيما يُسمِّيه نادي روما إشكالية العالم.
فقد شدّد نادي روما منذ تأسيسه عام 1968 ثم مرة أخرى في عام 1972 في تعليقاته على تقرير حدود النمو على الأهمية التي تحتلها المصاعب التي تواجه العالم الثالث في إطار الإشكالية الدولية.
يقول دينيس ميدوز: إن أي تحسُّن جوهري في وضع ما يُسمَّى بالأمم النامية يشكِّل شرطًا ضروريًّا للتوازن الدولي، وهو تحسُّن مطلوب بشكلٍ مُطْلق وضروري بالنسبة للأمم المتطورة بالمثل.
وقد جاء في أحد التقارير الرسمية الصادرة في جنيف أن ما يزيد على 52 ألف خبير قد تجادلوا حول قضايا العالم الثالث في ما يقرب من 1020 اجتماعًا، انعقد خلالها حوالي 14 ألف جلسة عمل.
وانطلاقًا من عدم فاعلية الكثير من تلك المساعي قام موريس غورنييه بتقديم تقرير إلى نادي روما يحمل عنوان العالم الثالث ثلاثة أرباع العالم حدد فيه مرحلة لعمل ملموس وفوري، وتركزت أهم توصياته ابتكارًا حول إيجاد وتكوين مجموعات تنمية كبيرة داخل العالم الثالث، والمجموعات المقترحة هي: أمريكا اللاتينية، إفريقيا، الشرق الأوسط، شبه القارة الهندية، جنوب آسيا.
وعلى آية حال، فإنه بعد أربع سنوات من الجهود لم تتجاوز التوصيات النهائية ما هو أكثر من التعميمات المبهمة.
ثم قدّم رينيه لينوار تقريره لنادي روما تحت عنوان العالم الثالث يستطيع أن يطعم نفسه، وتمَّ في هذا التقرير استعراض مدى توافر الغذاء ومدى اعتماد بلاد العالم الثالث على استيراد الغذاء في القرن القادم.
واقترح لينوار خطة لعب بديلة تدعو إلى تعبئة سكان الريف، بينما تلتزم الحكومات بهيكل للأسعار عادل، مع توفر بنية أساسية؛ لضمان وصول المنتجات إلى الأسواق والمستهلكين.
ومن ثَمَّ فقد خصَّص نادي روما تقارير عديدة ودراسات متنوعة متلاحقة لقضايا العالم الثالث؛ إيمانًا منه بان تلك القضايا بمثابة التحدي الرئيس في عصرنا الراهن.
بيد أن نادي روما قرَّر أن يغيِّر أسلوب عمله ومعالجته على أمل أن تجذب تقاريره ودراساته جمهورًا أكبر.
لذلك؛ جاء كتاب أو تقرير ثورة حُفاة الأقدام لبرتران شنايدر حصيلة لملاحظات مَيدانية دقيقة، وتحليل لسير أعمال معينة على مستوى القرى والمجتمعات المحلية في عشرات المناطق بالعالم الثالث.
إن هدف هذا التقرير يتمثل في محاولة إجراء استعراض شامل لاتجاه رئيس في التنمية من خلال تحليل تفصيلي لسلسلة من مبادرات ريفيين عاديين في تسعة عشر بلدًا من بلاد العالم الثالث.
إن ثورة الحُفاة هذه، والتي لا يمكن مقاومتها هي ثورة سلمية، ولكن من الصعب التنبؤ بالمسار الذي يمكن أن تتخذه إذا تم وضع عقبات وحواجز عديدة أمام مجراها، وقد بدأت المجتمعات الريفية في العالم الثالث تدرك أنها جديرة حقًّا بتحمُّل مسؤولية التنمية الاقتصادية لبلادها على الرغم من فقرها وعزلتها، وأصبحت تدرك أن في الإمكان التخلُّص من وضعها الحرج.
إن التنمية الريفية في العالم الثالث لا تشكل بالنسبة لبلايين الفلاحين قضية حياة أو موت فحسب، بل وتؤثر أيضًا في أمن وسلام كل أمة من الأمم.
إن ثورة حُفاة الأقدام توثيق أمين وتحليل متعاطف للتجارب التنموية الصغيرة لملايين البشر، مما لا يجد عادة مكانًا في أدبيات التنمية، ولا يجتذب اهتمام وسائل الإعلام مع أن هؤلاء الفقراء هم جوهر التنمية بمعناها الحقيقي.
وتقرير ثورة حُفاة الأقدام لشنايدر عبارة عن مشاهدات المؤلف وفريق العمل الدولي في أكثر من تسعة عشر مجتمعًا في العالم الثالث بما في ذلك مصر.
وقد أُعدّ التقرير برعاية نادي روما، وتُرجم إلى عدد من اللغات الحيَّة، وأحدث صدًى كبيرًا بين قادة الرأي من رجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة باعتباره يمثل نظرة ثانية تبرز الوجه الآخر لأزمة عميقة تفرض نفسها بإلحاح على ضمير الإنسانية في الجزء الأخير من القرن العشرين.
أخيرًا:
فإن بزوغ أي ظاهرة جديدة قد يضفي طابعًا قويًّا على إشكالية العالم؛ لذا فإن هناك نمطًا جديدًا للتنمية يتشكل الآن على مستوى المجتمعات المحلية، والقرى في المناطق الريفية بالعالم الثالث، يعتمد على الذات والتنمية الذاتية.
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية