يظهر الإنسان على الأرض، وهو لا يملك غير دماغه ويديه، وسرعان ما يخترع الأداة: الأداة، هي امتداد اليد وقوتها. والمطرقة هي الصورة الكاملة للأداة. وينتقل من الأداة إلى الآلة: الآلة، هي وسيلة صنعها الإنسان بيديه وأدواته لتعمل وحدها بفضل طاقة خارجية.
الأداة جزء من الإنسان، والآلة منفصلة عن الإنسان. والإنسان ينقل نفسه أحياناً الطاقة إلى الآلة. وتكون الطاقة عادة طاقة طبيعية. والحيوان والريح، والماء. وكلما عرف الإنسان كيف يحصل على طاقة أقوى زاد قدرة الآلة.
فإذا كانت الآلة تعمل بفضل طاقة خارجية، فإن الآلة الذاتية تعمل بفضل طاقة مزدوجة، الأولى تطلق الثانية القادرة على تشغيل المجموعة. وليس على الإنسان إلاّ أن يركب هذه العناصر المعقدة ليحقق الأتمتة.
إن الأتمتة هي الحل الأعظم نجوعاً لمسائل الإنتاج وهي بما لها من آثار اقتصادية واجتماعية تؤلف مشكلة، ذلك لأن الأتمتة في جوهرها ظاهرة اقتصادية واجتماعية شأنها في هذا شأن الآلية.
ولا ريب في أن الأتمتة تنشأ كالآلية من واقع علمي وفني.
إذ الأتمتة ((Automation تعبير دال على جملة الأساليب الذاتية الحركة التي تغني عن عمل الإنسان.
ومن ثم، يمكننا أن نرى في الأتمتة مع شيفيوت مجموعة الأساليب التي تسمح بإلغاء التداخل البشري في سلسلة العمليات، قد تكون في الأصل مجرد عمليات مادية أو عمليات ذهنية أو تتألف من اتحادهما.
أما روبير بورون فيرى أن الأتمتة مكننة مربعة أي استخدام آلة لإدارة أو مراقبة آلات أخرى، وهذا المعنى يلتقي تقريباً مع تفكير بيتر دروكر "استخدام آلات للسهر على الآلات".
والأتمتة عند بييرغاكسوت كذلك، تكمل الثورة الصناعية "بتحميل الآلة عبء مراقبة الآلة، أي أنها تحل محل يد وحواس ودماغ العامل جهازاً إلكترونياً غاية في التعقيد والحساسية".
ولو أردنا لذكرنا من التعريفات ما لا نهاية له لأن كل اقتصادي إذ يستعمل تعبيراً جديداً، مضطر إلى تعريفه، وتعد الدراسات المكتوبة عن الأتمتة بالألوف.
والواقع أن الأتمتة هي المنظر المسرحي لمكننة موغلة إن لم نقل تامة، يتجلى في المصنع بآلات تقوم بعمليات متعاقبة في مسار إنتاج مستمر مع مراقبة وتنظيم ذاتيين، وفي المكتب بعدادات عجيبة السرعة وذكية وفي البيت بأدوات وأجهزة مختلفة تقوم وحدها بالعمل المنزلي، كل هذا بفضل الله ثم تقدم العلم في كل المجالات لاسيما في المجال الكهربي.
إن استخدام الإلكترونيات هو الذي يؤمن الإمكانات الذاتية.
لذا، تمتاز الأتمتة، بمعناها الاقتصادي، بالتطبيق العملي لأربعة مبادئ:
1 - المكننة: أو استخدام آلة لإنجاز عمل بدل الطاقة البشرية أو الحيوانية، وأحياناً بدل عمل الإنسان الفكري.
2 - التغذية الذاتية: وهو المبدأ الذي يتم بموجبه تغذية الآلة من نتاجها.
3 - الإنتاج المستمر: وهذا هو الهدف النهائي للإنتاج بالجملة.
4 - العقلنة: أو استخدام العقل في حل المسائل ذات العلاقة بالإنتاج والمشروعات.
إن كلمات مثل: "الإنسانات الآلية" و"الأدمغة الجبارة" و"مصانع كبس الأزرار"، تثير في أذهاننا تماماً الحد النهائي للأتمتة الراهنة، والواقع المبدئي لعالم الغد. إن مجال الأتمتة ضيق نسبياً، والأساليب الذاتية التي حذف منها التدخل البشري، لا تغطي غير جزء ضئيل من العمليات.
فلا تبدو الأتمتة إذن، غير جزر صغيرة من العمليات الذاتية في القطاع الشامل، والحق أن هذه الجزر توجد منذ زمن طويل، على شكل آلات التغليف.
كما أن الأتمتة لم تبلغ أبداً المستوى اللازم للكمال المطلوب والكلفة المنشودة.
كذا، فإن ما نسميه بالأتمتة ليس سوى تطوير مسار الإنتاج إلى درجة عالية من المكننة، فما كان يتم في الدرجة 4 بمخرطة ذات محرك، أصبح يتم في الدرجة6 بمخرطة حرة، وهذا ما نسميه بالأتمتة، مع أنه ليس في الواقع غير مرحلة راقية من المكننة.
إننا عندما نبحث عن أصل الأتمتة، يمكننا أن نؤكد بأن الإنسان عرف دائماً استعمال معدات ذاتية للتهرب من العمل، مثل المقلاع، وملقم الطاحون والنواعير المائية.
ولذا، فلو أرخّنا أطوار الأتمتة لوقفنا منها على خمسة:
1 - الاستعاضة عن الطاقة البشرية أو الحيوانية بالطاقة الصناعية الاصطناعية المستمدة من آلات تحركها مصادر آلية أو كهربائية أو كيميائية.
2 - استعمال القياس الفيزيائي الذي يسمح بصنع عناصر معيرة يمكن تبديلها ببعضها.
3 - استخدام فنون الإدارة الآلية.
4 - إدخال التغذية الذاتية.
5 - استخدام فنون الحساب الذاتي التي تسمح بإعطاء التغذية الذاتية كل جدواها، سواء في المكتب أم في المصنع.
يقول لويس سالرون في كتابه" الأتمتة": إن الآلة المحولة والدماغ الإلكتروني هما الهدفان النهائيان للتطور التاريخي للأتمتة.
إن للأتمتة دواعي وأسباباً وآثاراً عديدة منها:
أ- الأتمتة تعين على التوسع وتحقيق التوازن الاقتصادي.
ب- الأتمتة تزيد الإنتاجية.
ج- الأتمتة مهمة لما تدوره.
د- الأتمتة تعمل أفضل وأكثر وأسرع من غيرها بأقل عدد من الأشخاص وبأقل تكلفة.
يرى بعض الاقتصاديين أن الأتمتة تكبح جماح نفسها بفضل الآلية الاقتصادية وحدها، وغرضهم أن يهدئوا روع أولئك الذين يرون في الأتمتة نفياً للإنسان من المصنع بل ومن المجتمع، ومن مجتمع يغدو آلة.
وإذا كان تطور الآلية لم ينقطع منذ نهاية القرن الثامن عشر، فلنا أن نتساءل: لماذا تُسبب الأتمتة هذا الهيجان وردود الفعل تجاهها؟!
سبب ذلك يسير، وهو قائم على حقيقة. إذ إن رعاية المجلات والصحف والسينما ومعظم أجهزة العلم المتوهم لها، جعلت الرأي العام يرى في الأتمتة الواقع الصناعي العلمي للغد. وقد استيقظت في خياله مصانع كبس الزر التي سترمي على قارعة الطريق عشرات ملايين العمال وتسلمهم للبؤس. فلم يكن العملاق الآلي آلة وحسب، وإنما كان الإنسان الآلة، يتقدم بلا رحمة من إنسان اللحم والعظم ليسحقه بأظافره الفولاذية.
إن الأتمتة، في ظل الأشكال الجبارة للآلة المحولة والدماغ الإلكتروني، لا يمكن تطبيقها إلا في المشروعات الكبيرة فكلفة التجهيزات وجسامة الإنتاج، تضعان المشروعات الصغرى والمتوسطة خارج المباراة.
بَيْدَ أن الأتمتة ستكون خيرة، إذ عرفنا ما هي وماذا نريد أن نفعل بها؟!!...
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية