بالرغم من أهمية المورثات، فإنها ليست الكلمة الفصل فيما يتعلق بالذكاء البشري. إنها تؤثر ولكنها لا تحدد بشكل كامل الكيفية التي يتطور بها الدماغ ومدى الجودة التي يعمل بها. وهذا بدوره يوحي بسلوك طريق بديل لتعزيز المقدرة العقلية: أي تدخل مباشر في بيولوجية التفكير. وقد لا يكون الإدراك لمثل هذا التدخل بعيداً.
إن محاولة وصف الذكاء بمفردات بيولوجية هو بحد ذاته تطور حديث، لقد سيطر الفلاسفة وعلماء النفس على ذلك الحقل خلال عدة قرون ، محصورين باستنتاجات افتراضية وبملاحظات ، كان أولئك الفلاسفة وعلماء النفس يطرحون بشكل عام آراء فارغة لتفسير الفكر والعاطفة والمظاهر العديدة الأخرى لحالة الشعور. لكن في العقود الحديثة فقط، بدأ الباحثون في تحليل التفكير بوصفه عملية بيولوجية تجري في الدماغ.
إن الدماغ، ويا للسخرية، هو أقل عضو مدرك الكنه في الجسم. وتصف كتب الأحياء المقررة في المدارس الثانوية بشكل من التفصيل كيفية ضخ الدم وكيفية تنقية الكلى له، لكن نفس تلك الكتب المقررة تعالج الدماغ، العضو الوحيد الذي يمثل البشر من خلاله تقدماً واضحاً على الثديات الأخرى، كصندوق رمادي ينتج الفكر بكل تنوعاته وعظمته، من خلال عمليات غامضة بشكل تام. ويبقى الفكر، بالرغم من التطورات الدرامية، واحداً من معضلات تعتبر أكثر المعضلات إلحاحاً وبحاجة لحل.
لقد كشف عمل الدكتور وايلر بينفيلد التجريبي مع أشخاص مصابين بالصرع عن طبيعة ونوعية الذكريات المخزونة من قبل الدماغ. لقد عرف بينفلد من تسجيلات راسمة موجات الدماغ أن النوبات المرضية تمثل تشخيصاً لسورات كهربية عنيفة متتابعة في الدماغ.
ولقد ظن أن بإمكانه اكتشاف مصدر هذه السورات وذلك بتحفيز سطح أدمغة المصابين بالصرع بواسطة تيار كهربائي خفيف وهم في حالة الوعي. مع أن جهوده منيت بالفشل إلا أنها أعطت بعض النتائج غير العادية.
فلقد تبين أن جس أجزاء معينة من الدماغ يطلق شلالاً من الاشارات عبر خلايا عصبية مترابطة ويؤدي إلى إثارة ذكريات مركزة ومفصلة بشكل دقيق لأحداث وانطباعات منسية من ماضي المريض.
لقد أدى النقاش المحتدم حول تحيزات عرقية وحضارية فيما يتعلق باختبار قياس معدل الذكاء إلى تحفيز البحث لإيجاد أساليب أخرى لقياس المقدرة الذهنية الصرفة. ولقد كشف ذلك العمل مؤشرات بيولوجية معينة للذكاء، ربما تحسن من الفهم للعمليات الفكرية وتوحى بطرق لتعزيز تلك العمليات. إذ يقيس اختبار قياس الذكاء العادي (والمسمى اختبار القياس النفسي) الأداء على مجموعات من القضايا مختلفة الأنواع. إن الافتراض بأن أداءً متفوقاً يعكس مقدرة متفوقة هو أمر صحيح بالتأكيد بمجمله.
لكن يمكن للتحيزات الثقافية في الاختبارات، والمستويات المختلفة للمهارات اللفظية والمعرفة والحوافز والخبرة بأنواع معينة من الأمور أن تشوه النتائج الفردية، ومن هنا جاء البحث عن اختبارات تكون أقل تأثيراً.
يقول سي بايبك في كتابه ارتقاء التقدم : إن اختبارات السرعة (أو الميقاتية) هي إحدى الأساليب الواعدة. وتقوم هذه الاختبارات على القيام بمهام غاية في البساطة بحيث يمكن لأي فرد إنجازها بشكل تام.
وهناك مقياس آخر مبني مباشرة على وظيفة الدماغ هو معدل الجهد المثار. تقول تلك النظرية بأن الأدمغة الذكية تنقل الإشارات بوضوح وتناسق أكبر (أو بأخطاء وتشويش أقل) من الأدمغة الغبية. إن تحليل رسم موجات الدماغ يمكن أن يقيس هذا الفرق.
وبإيجاز، فإن حافزاً حسياً (من مثل صورة أو صوت) يثير موجات الدماغ الساكنة. للشخص المعني، عندما يقوم ذلك الدماغ بمعالجة ذلك الحافز. وهذا بدوره ينتج نمطاً من الموجات الشائكة تسمى بالجهد المثار.
كذا فإن هناك مقياسا بيولوجيا آخر للذكاء، وهو قياس الطاقة المستهلكة في الدماغ. تهيء تقنيات متطورة للتصوير بالأشعة للباحثين القدرة على قياس كمية الجلوكوز التي يؤيضها الدماغ بينما يكون منهمكاً في عملية التفكير. لقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الأذكياء يستخدمون طاقة أقل من تلك التي يستخدمها أنداد لهم أقل ذكاء لإنجاز نفس المهام، وكما أن ذلك الفارق يتسع كلما أصبحت المهام أكثر صعوبة. يمكن لهذا أن يعني أن للأذكياء شبكات عصبية أصغر، ولذلك أكثر كفاءة للتعلم والتذكر، أو أن خلاياهم العصبية الفردية تعمل بشكل أكثر كفاءة. إن دراسات حديثة في مجال تصوير الدماغ قد تسهل دراسة تلك الفوارق.
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية