يوسف -عليه السلام- توفرَت عنده جميع مقوِّمات الرغبة ودواعي الشهوة، وتهيَّأَت له ظروفُها، وأخذَت تتجاذَبُه أسبابُها من كل جهة؛ من الشباب، والغُربة، وكونه أعزبًا، وكون المراوِدة له -امرأة العزيز- شديدة الجمال، شديدة الحب والعشق له، شديدة الإلحاح في طلبه، وهو مع ذلك كله في مأمَنٍ من الفضيحة والعقوبة -فالمراوِدة له رفيعة المنصب، وهي الحاكمة عليه؛ لأنه مملوكها، وهو في دارها وتحت سلطانها، وقد غلَّقَت الأبواب!-.
ثم نراه بعد كل هذا= قد نَسَفَها بِرُمَّتها، قائلًا: (مَعاذَ الله)!!
وإني لَأُسائِلُ نفسي متعجبًا -مع ثقتي بأنه محفوظ محفوف بتلك العناية الربانية، والإحاطة الإلهية-: كيف استطاع ذلك النبيُّ الكريمُ -صلوات الله وسلامه عليه- أن ينجوَ من تلك الفتنة الأخَّاذة، والمحنة الوقَّادة دون أدنى مُواقَعة فيها؟!! بل أصابتني الدهشةُ -واللهِ- يوم أخبرَنا القرآنُ بأنه (فَرَّ) منها إلى الباب، والمراوِدةُ تُلاحقه وتُسابقه، وتُهدِّدُه وتُوعِدُه؛ حتى وصل بها الحال أنْ جذبَتْه بشدة فقطَّعَت قميصَه! وأنه اختار السَّجنَ على إجابة تلك المراوِدة -تلك الإجابة التي فيها لذةُ الجسد بأكمله، وذلك السِّجن الذي فيه عذابُه!!-.
فوقعَت عيني على كلمة قالها الإمامُ ابنُ تيمية -رحمه الله- في [الفتاوى ١٠/ ٦٠٢] أصابت المِفصَلَ في كل تلك الإيرادات، وضمَّدَت جراحَ تلك التساؤلات والتعجبات، حيث قال -رحمه الله-: *(فإن قوةَ يوسفَ ومحبتَه لله وإخلاصَه وخشيتَه كانت أقوى من جمالِ امرأةِ العزيزِ وحسنِها وحبِّه لها)* انتهى كلامه.
*وتأمل معي:* كيف أن الله لما ذكر إنجاءَه ليوسفَ من تلك البَلِيَّة، قال بعدها: *(إنه من عبادنا المخلِصين)* -واقرأْها بكسر اللام، على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر-. ولله درّ ابن القيّم - رحمه الله- ما أعمقُ فهمهُ حين قال في (المفتاح ٧٢/١ )-:( الإخلاص : هو سبيل الخلاص).
ويا لله العَجَب! لم يكن الحافظ ليوسفَ: تلك السلالة المُصْطَفَوِية التي خرج منها (إبراهيم - إسحاق - يعقوب، عليهم السلام)، بل لم يأتِ لهذا ذكر في مقام الامتنان بالعصمة، وقد عرفتَ أن: *(مَن بطَّأَ به عملُه، لم يُسرِع به نسبُه)،* إنما هو دعاؤه، وابتهالُه، وتعلُّقُه بربه وخالقه -جل وعلا-، فكانت النتيجة: *(فاستجاب له ربُّه فصَرَف عنه كيدَهن).*
فإذا أرهقَكَ قلبُك بالعشق أو بالتعلق بغير الله= فداوِهِ بشَحْنِه بحبِّ الله، والإخلاصِ له، ودعائِه، وأَفِضْ عليه من ذلك؛ فإن ذلك إذا تمَكَّن في القلب= لم يقبل بمزاحمة غيرِه له، مهما بلغَتْ قوةُ ذلك المُزاحمِ وتأثيرُه، عندها: يَطمئنُّ القلب، وتنتعشُ الروح، وتسكنُ الجوارح.
*وسؤالي -عصمَك الله من الفتن-: يا تُرى ماذا ستفعلُ أنتَ لو كنتَ مكانَه؟!!*
كأني بك تجيبني بسؤال، فتقول لي -وكلنا على يقين بأن العصمةَ توفيقٌ من الله-: أخبِرْني عن مدى حبِّك لله، وإخلاصِك له، وابتهالِك إليه= أُخْبِرْك بالجواب.
فالْزَمْ هذا الغَرْزَ إنْ داهمَتْكَ فتنةٌ أذْهَلَت عقلَك، وسَلَبَت لُبَّك، وأضعَفَت قُوَاك= تجدْ حبلَ النجاةِ من مولاك.
د. طارق بن سعيد بن سنيد أبوربعة الحربي.