طوال التاريخ ، نشب جدال حول طريقة إحراز تقدم اقتصادي.
لكن مفهوم أن التجارة تنتج تقدما بشرياً وأن فقدانها يحكم على الناس بعيش الكفاف , لم يقبله الجميع. فهذه العداوة القديمة نحو التجارة والمتاجرة , كوسيلة لزيادة ثروة الأمم , من الصعب أن تموت , وحتى القرن الثامن عشر , قلّما كان ينظر إلى التدفق الحر للتجارة بأنه مفيد.
إن الخرائط التي ننظر إليها الآن , والعلاقات التجارية التي نعتبرها الآن كأمر مُسلّم به , تحمل القليل من شبه تلك الخرائط والعلاقات التي كنا نعرفها قبل جيل من الزمن.
فالسوق هي الطريقة الوحيدة المعروفة لتوفير معلومات تمكّن الأفراد من أن يحكموا على المزايا النسبية لمختلف استعمالات الموارد التي ليست لديهم عنها معرفة مباشرة ، والتي عن طريق استعمالها , سواء قصدوا ذلك أم لا , يخدمون إحتياطات أفراد بعيدين غير معروفين. وهذه المعلومات مشتتة تشتتاً جوهرياً ولا يمكن جمعها معاً وإيصالها إلى هيئة مفوّضة بمهمة خلق نظام خلقاً متعمداً.
لقد كانت قدرة الدول ذات السيادة التقليدية هذه تتآكل تقريباً بنفس السرعة التي تتآكل فيها سلطات الدول الفردية في التحكم بالتقلبات قصيرة الأجل في قيم عملاتها الخاصة وتتآكل على نحو كبير لأن المفهوم الكلاسيكي للتجارة الدولية آخذ في أن يصبح مهجوراً.
وقد ظلّ العالم يتحرك بخطوات متقطّعة ، ومع حدوث عدد كبير من التراجعات , نحو اقتصاد عالميّ منذ بداية الزمن تقريباً. لكن هذه العملية تسارعت كثيراً في العقود القليلة الماضية , ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى أن شبكة المعلومات العالمية المتنامية والأسواق المالية العالمية والتحسينات في النقل قد سهلّت كثيراً صعوبات التجارة والإنتاج الدولية.
ولقد نتج عن هذا التسارع نحو اقتصاد عالميّ تغييرٌ أساسّي في عمل العالم. والقوة الدافعة لهذا التغيير هي تقنية المعلومات , وخاصة الأهمية النسبية لرأس المال الفكري بعلاقته برأس المال المادي.
فرأس المال الفكري – الذكاء الإنساني – أصبح الآن العامل المسيطر في الإنتاج , وأهم سوق في العالم , جوهرياً , هي سوق رأس المال الفكري.
والدول التي تحترم حرية رأس المال الفكريّ , وتتكيف معه تبعاً لذلك , ستزدهر في الاقتصاد العالميّ , أما الدول التي تتخيل أن يمكن استبعاد أو تذليل هذا الشكل الأقوى من رأس المال , فإنها ستذوى.
إن انفجار التجارة العالمية الهائل لم يخلق سوقاً عالمية فقط , بل إن شبكة المعلومات العالمية جعلت في الإمكان كذلك نقل تقسيم العمل عبر جميع حالات الإنتاج والتسويق مع اكتساب قيمة مضافة في عدة أقطار.
إن الكثير من هذه التجارة , وخاصة التقنية الغنية بالمعلومات , تتم أو تسهّل بشبكة معقّدة بدرجة متزايدة من التحالفات بين شركات تشترك في موارد تقنية وفكرية ثمينة. وهذه المشاركة في رأس المال الفكري قد تأخذ شكل منتوجات متطوّرة تطوراً مشتركاً , تصبّ كل منها في خطوط إنتاج الآخرين أو توّرد مكّونات حدود قاطعة للآخرين أو ببساطة توفير أفضل وأحدث التنافسات التقنيّة فائقة السرعة.
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية