لفت نظري في احدى وسائل التواصل مقطع فيديو متداول لطفل صغير يحمل في يده عصاً غليظة و يتحدث بلغة الكبار مهدّداً و متوعّداً بنبرة صوت رجولية بأنه سيضرب بعصاه كل امرأة تخالف تعليماته و املاءاته ازاء ما يجب أن تكون عليه المرأة فيما يتعلق بتدبير شئون البيت العائلية, اضافة لما تضمّنه كلام الطفل من محاكاة لأسلوب الكبار بمفرداتٍ لغوية اكتسبها الطفل بعد دخوله لمجالس الكبار في البيئة الاجتماعية المحيطة بالطفل.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان "التحوّلات الثقافية وتأثيرها في سلوك الإنسان", فإن صغار السن قد يتعرّضون في وقت مبكر من مرحلة الطفولة إلى جرعة زائدة من مصطلحات وعبارات مشتقة من ثقافة اجتماعية معينة يتشرّب بها الصبية من خلال حثهم على التواجد في مجالس يحضرها الكبار ويتبادلون فيها أطراف الحديث وشرب القهوة العربية.
وفي الحقيقة أن هذه المجالس الثقافية التقليدية لم تكن تخلو من وجود الصغار واليافعين حيث يلعب ويلهو هؤلاء الصبية بالقرب من هذه المجالس ويستمعون فيها إلى قصص الغزو والمعارك والثورات والحروب وغير ذلك مما يدور ويطرح من قضايا في مجالس الكبار.
يجد الصبية في تلك المجالس نوعا من التشجيع على دخول المجلس مبكّراً للاطلاع على تقاليده وطقوسه ورواياته وأبطاله ما يجعل الصّبية يقفون على مشارف واقع ثقافي تم فرضه عليهم كشرط مسبق لكسب احترام وتقدير صانعي القرار في تلك المجالس الأدبية والديوانيات التقليدية حيث يتفاخر الكبار بدخول أبنائهم مبكّرا في دهاليز هذه المجالس والاستماع إلى خطابها الشديد في نبرته من حيث عدم القبول بالمصالحة والأخذ بالثأر واللجوء إلى القوة البدنية في استرداد الحقوق وكسب الغنائم، وما إلى ذلك. وهو خطاب كان يتصف بالحدّة في تناوله لطرح قضايا محلّية والتعامل معها بما يقتضيه الموقف دون الأخذ بعين الاعتبار انعكاسات خطاب المجلس على قدرات عقل الطفل بما يشبه الصدمة الناتجة عن تلقي مفهوم تربوي لا يتناسب مع قدرات العقل التفاعلية لمرحلة عمرية معينة. كان ذلك يحدث في الماضي البعيد ولكنه اليوم - في ظل التوعية والحراك العلمي والتربوي - يختفي تقريبا دون أن يتبدّد بشكل كامل.
ولعل من المناسب هنا أن أذكر بعض الأمثلة الحيّة على موضوع تلقي بعض الأطفال لنظريات محفّزة للانقلاب على طبيعة الناشئين التي تميل إلى الهدوء والمصالحة والتسامح مع الآخر. وكانت هذه المفاهيم تقدم لهم في المجالس على طبق من فضة حيث يتغذى الطفل بكم هائل من المفردات الثقافية المزعزعة لاستقرار الفكر إلى الحد الذي قد يصل إلى مستوى النزعة نحو تطبيق هذه المفاهيم والمصطلحات التي تنمو مع الأطفال سنة بعد سنة.
ولمزيد من الأمثلة، فإني أتذكر قبل سنوات طويلة حينما كنت أناقش أحد الشباب الصغار وقد قرر آنذاك ترك الدراسة مبكرا والاتجاه للبحث عن العمل في مجال التجنيد العسكري، فبادرته بالسؤال عن سبب دخوله لمجالات العمل قبل إكمال الدراسة، لاسيما وأنه من الطلاب المتفوقين دراسيا، فأجابني بسرعة وبكل عفوية: "حتى أكون رجلا وأعتمد على نفسي".
فحاولت أن أوضح له بأنه أيضا رجل وهو على مقاعد الدراسة، وأن الخيار الأفضل هو العودة إلى المدرسة، لكنه لم يأبه لما قلت ومضى في طريقه، وفي سياق الحوار مع هذا الشاب اليافع تذكّرتُ عبارة تُقال باللهجة العامية وكنا نحن الصغار نسمعها بمعدل (160) مرة في اليوم, ألا وهي كلمة "خلّك رجّال" التي يخاطب بها البعض الطفل بشكل عفوي و تلقائي دون ادراك لخطورة الانقلاب على براءة الطفولة أو التدخل والتلاعب بإعدادات عقول الصغار لإجراء بعض التعديلات التي قد تكون كارثية اذا ما أقدم الطفل على ارتكاب أي حماقة مع أقرانه اليافعين لعل أن تنقله مبكرا من عالمه الصغير الى عالم الكبار.
وفي هذا السياق أتذكّر أيضاً أنني كنت شاهدت أثناء فترة البحث عن عمل لوحة كبيرة على مدخل أحد المعاهد العسكرية, مكتوب عليها بخط أسود عريض جملة " مصنع الرجال" الأمر الذي شدّ انتباهي و جعلني أفكر مليّاً في تطبيق نظرية " خلك رجّال" التي ترسّخت و تجذّرت في الذاكرة الى حد اتخاذ قرار تعليق الدراسة في عمر السابعة عشر و الالتحاق بذاك المصنع الذي صنع مبادئ وصفات و سمات الرجل السعودي, و ألهب مشاعر الانتماء للوطن, و دغدغ أوتار الذود عن حياضه ومقدّساته ضد أي اعتداء خارجي مثلما أوضحت في مقال سابق بعنوان " الوطن و الشباب" .
أما بالنسبة لمن هو دون الخامسة عشر, فأرى أن من الأنسب أن ندعه يلعب و يرتع و يستمتع بطفولته وما تبقى له من سنوات صباه قبل الزّج به في مجالس الكبار وعالمهم الخاص بهم. وحينما ينتقل من مرحلة الطفولة والصبا الى مرحلة النضج والركود العقلي والاستقرار العاطفي, فسوف يكون حينئذ رجلًا قويّاً وقادراً على تحمل المسئولية و مدركاً تماماً لعواقب الأمور و تبعات المواقف المختلفة في حياته وما يترتب عليها.
يقول الشاعر أبو القاسم الشابي:
للهِ مَــا أَحْــــلى الطُّفـــولَـةَ ** إنَّهــــا حــــلمُ الحـــيـــاةْ
عهــدٌ كَـمَـعْــسـولِ الـرُّؤَى ** مَا بـيـنَ أجـنـحَـةِ السُّبَاتْ
تــــرنـــــو إلــى الدُّنـــيـــا ** ومَـا فـيـهـا بـعـينٍ باسِمَهْ
وتَـسـيرُ في عَدَواتِ وَادِيها ** بـــنَـــفْــسٍ حَـــــالمــــهْ