كنت كتبت الكثير من المقالات الصحفية حول مآسي الحروب في العالم و آخرها الحرب الروسية التي مضى عليها قرابة العامين في أوكرانيا, وكذلك الحروب في العراق وليبيا وسوريا والسودان وافغانستان, لكنني أكتب اليوم عن حرب جديدة في منطقتنا العربية كانت اندلعت قبل أكثر من شهرين بين حركة المقاومة الفلسطينية و جيش الاحتلال الاسرائيلي كما أشرت الى ذلك في مقالات بعنوان "أفق الحل لإنهاء الحرب", و " ازدواجية المعايير الغربية تجاه القضية الفلسطينية", غير أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة ليست كما الحروب في سوريا و ليبيا وتايوان والسودان أو في أوكرانيا التي تلقّت ولا تزال تتلقّى دعما عسكريا أمريكيا و أوروبيا ما جعل أوكرانيا تستمر في صمودها أمام أقوى و أشرس جيوش العالم المدججة بكل أنواع الأسلحة الحديثة رغم نزوح و لجوء الشعب الاوكراني للدول المجاورة في مشهد لا يمكن مقارنته بمشهد النازحين في اثيوبيا والسودان و في قطاع غزة المحاصر حيث لجأ الغزاة بدعم من أمريكا الى ارتكاب أبشع المجازر و قصف المستشفيات والمدارس و منع دخول شحنات المساعدات الانسانية من الغذاء والمستلزمات الطبية والإيوائية ما أدّى الى حدوث كارثة انسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى, وذلك على مرأى من الدول الغربية التي كانت قد احتضنت لاجئي أوكرانيا في الفنادق الفخمة و فتحت لهم كل المعابر الآمنة, وقدمت لهم كل أشكال الرعاية الصحية والخدمات الانسانية, بل ان هذه الدول وفّرت حتى الخدمات الحيوانية لكلاب اللاجئين الأوكرانيين الذين ما أن وصلت وفودهم حتى سارعت دول أوروبا الشرقية المجاورة لاستقبالهم بالورود مع كلابهم المُدلّلة عند نقاط العبور الحدودية, فضلا عن أن بعضا من رؤساء حكومات دول أوروبية تعهّدوا آنذاك باستقبال و ايواء الفارّين من جحيم الحرب الروسية في الفنادق الأوروبية مع توفير الحماية الكاملة لهم كما أوضحت في مقال سابق بعنوان " اللاجئون الأوكرانيون".
على النقيض من مواقف الدول الكبرى تجاه العدوان الرّوسي, وعلى النقيض من المشهد الانساني تجاه لاجئي أوكرانيا, فإننا نشاهد على الجانب الآخر من المرآة الوجه القبيح لأولئك الذين سارعوا بمد يد العون و تقديم المساعدات العسكرية والمالية واللوجستية وأيضا الخدمات الانسانية العاجلة لجميع النّازحين من أوكرانيا, اذ اكتفت أمريكا والدول الأوروبية, فيما يتعلق بالعدوان الاسرائيلي على قطاع غزة, بإصدار بيانات وتصريحات خجولة ازاء جرائم الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة, وحرمان المدنيين هناك من أبسط مقومات الحياة كالماء والغذاء والدواء والايواء دون أن تستنكر أي من هذه الدول الكريمة مع لاجئي أوكرانيا وقواتها جرائم الاحتلال في غزة والضفة الغربية, واكتفت فقط بأن تظاهرت بالحياد تجاه ما جرى من عمليات ابادة جماعية وما يجري في الأراضي العربية المحتلة من انتهاكات لحقوق الانسان و مآسي يتحرّك لأجلها حتى الضمير الحيواني, وذلك بالرغم من وجود مكاتب ومدارس الأونروا في قطاع غزة, وبرغم مناشدات الأمم المتحدة و تحذيرات منظمة الصحة العالمية من ضرورة احترام القانون الدولي وخطورة تفشي أزمات الجوع والعطش والأمراض المعدية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحاصر الذي تعرّض لقصفِ صاروخي مكثّف يُقدّر وفقا لمحللين و مراسلين صحفيين بنحو ضعف ما تعرّضت له المانيا النازية من قصف لطائرات الحلفاء ابّان الحرب العالمية الثانية.
فأين هو الضمير الدولي و أين هي بالونات حقوق الانسان في أوروبا, ولماذا يقف المجتمع الدولي أمام هذه الجرائم والمجازر مكتوف الأيدي عاجزا حتى عن مجرّد اصدار ادانة دولية لما يجري في القطاع, بل و أين هو الهلال الأحمر والصليب الأسود والمنظمات الأممية الأخرى, ولماذا توافد زعماء الدول الغربية الى اسرائيل تباعا و أعلنوا دعمهم ومساندتهم ووقوفهم الى جانب المعتدين الغزاة في مواقف فاضحة لازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الأحداث في الشرق الأوسط كما أوضحت في مقال سابق بعنوان "ازدواجية المعايير الغربية تجاه القضية الفلسطينية".
لذلك أتساءل هنا, بصفتي أحد الكتّاب الصحفيين و أحد المراقبين للشأن الدولي والإقليمي, عمّا هو الفرق بين النّازحين الأوكرانيين وبين نظرائهم من النّازحين الفلسطينيين الذين تستهدفهم قذائف الطائرات الحربية والأحزمة النارية الاسرائيلية حتى خلال مسيرتهم و نزوحهم داخل القطاع الذي لا تتجاوز مساحته 360 كيلو متر مربع!, و لماذا تغض أمريكا و حلفاءها من دول أوروبا الشرقية والغربية الطرف عمّا يحدث من قتلٍ متعمّد للأطفال والنساء والشيوخ, ومن استهداف مباشر لمباني القطاع الصحي و كوادره الطبية؟!
أ ليست بنود القانون الدولي والقانون الدولي الانساني تنص على حماية كل المدنيين بصرف النظر عن لونهم و عرقهم و جنسيتهم؟!, أم أن هذا القانون الدولي يستثني النازحين من عرقيات عربية وأفريقية وآسيوية؟!.. و برغم الهبّة الدولية الأوروبية تجاه لاجئي أوكرانيا, فإنني اتساءل عن سبب تخاذل المجتمع الدولي أمام ظاهرة اللجوء والنزوح في منطقتي الشرق الأوسط و أفريقيا كما أوضحت في مقال سابق بعنوان " ظاهرة النزوح وموقف المجتمع الدولي".
كنت ذكرت في مقال سابق بعنوان " سيناريو حرب النجوم ينطلق من أوكرانيا", أن روسيا تتعمّد اطالة أمد الحرب لكي يستمر الدعم الأمريكي لأوكرانيا و يستمر استنزاف الاقتصاد الأمريكي الى أن يحدث ما يؤول الى تفكك الولايات المتحدة الى ولايات مستقلة كما حدث للاتحاد السوفيتي خلال حرب النجوم التي أدّت الى انهيار الامبراطورية السوفيتية في عهد بوريس يلتسن و ليونيد بريجينيف وغيرهم من زعماء الدولة السوفيتية التي لفظت أنفاسها الأخيرة بعد مجاراة الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحرب نتيجة لانهيار الاقتصاد السوفيتي تماما بعد أن أضطر السوفييت في تلك الحقبة الى تخصيص كل موازنة الدولة لصالح برنامج الترسانة العسكرية ومجابهة العدو الأمريكي ما جعل طوابير الباحثين عن لقمة العيش تصل الى عشرات الكيلومترات بحثا عن رغيف من الخبز وقليل من البصل والطماطم والذرة, حتى قيل أن الحكومة الاشتراكية آنذاك لجأت الى توزيع بطاقات تموينية على المواطنين الرّوس لتأمين الحد الأدنى من الغذاء ومجابهة تداعيات الحرب ومنها أزمة الجوع التي تفشّت آنذاك في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي. ولذلك فان سيناريو التهجير والتجويع والتعطيش خلال حقبة الاتحاد السوفيتي هو ما تسعى اسرائيل اليوم بدعم أمريكي الى اعادة تطبيقه على الشعب الفلسطيني بل وربما شعوب أخرى في المنطقة العربية.
وفي ظل التقاعس والتخاذل الدولي, اتساءل ان كان التحالف الغربي يسعى اليوم من خلال دعمه السياسي والعسكري لإسرائيل الى التطهير العرقي والتهجير القسري و تقسيم المُقسّم و تجزئة المُجزّأ لما يبدوا واضحا أنه هولوكوست فلسطينية جديدة, في تجاهل تام لقرارات الأمم المتحدة ولمبادرات حل الدولتين, و في خرق واضح وانتهاك صارخ و تحدّي فاضح لكل الأعراف والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان في أن يعيش بسلام و حرية و كرامة.
يقول جميل صدقي:
تبــغي المدافــع هــــدم أيــة قـــرية *** فلــها على شـط الفــــرات رغاء
جرت الدموع على دمــاء قد جرت *** و جرت على تلك الدمـــوع دماء
و رأيت في الصبح الشيوخ جميعهم *** يدعون لو نفــع الشيــوخ دعـــاء