لتعريف القرّاء بمصطلح "حرب النجوم" أو " مبادرة الدفاع الاستراتيجي" فان هذا المصطلح السياسي يعني وفقا للمصادر بأنه برنامج لتطوير نظام دفاعي صاروخي يعتمد على أحدث التقنيات باستخدام النّظم الفضائية لحماية الولايات المتحدة الأمريكية من أي هجوم محتمل بالصواريخ الباليستية النّووية الاستراتيجية.
وكانت هذه المبادرة أدخلت الاتحاد السوفيتي خلال الثمانينات في سباق تسلّح تمثّل في قيام الدولة السوفيتية آنذاك بمجاراة الولايات المتحدة الأمريكية في زيادة الانفاق العسكري و غزو الفضاء لتحديث قوتها العسكرية الى الحد الذي ساهم في زيادة الضغط الاقتصادي الشديد على الاتحاد السوفيتي وبالتالي ضعف موقف المتشددين في القيادة السوفيتية بعد سنوات طويلة من الحرب مروراً بأزمة اقتصادية حادة ثم ظهور الزعيم السوفيتي المعتدل ميخائيل غورباتشوف عام 1985 وصولا الى سقوط جدار برلين في نوفمبر تشرين الثاني عام 1989م وأخيرا انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر كانون الأول عام 1991م.
و كان مسؤولون سوفييت أقرّوا بأنّ برنامج " حرب النجوم " كان أحد أهم عوامل الانهيار اذ بدى واضحا عدم قدرة الاتحاد السوفيتي اقتصاديا على المنافسة في سباق تسلح مع الولايات المتحدة الامريكية.
وكما ذكرت في مقالات سابقة عن الحروب في هذا العالم, فان دول التحالف الغربية لا تزال عازمة على دحر القوات الروسية بل وهزيمتها عسكريا على مسرح الأحداث في أوكرانيا, اضافة الى اضعاف اقتصاد روسيا من ناحية أخرى بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية والتكنولوجية التي واجهتها روسيا بقطع امدادات الغاز عن أوروبا الشرقية والغربية ما أدّى الى حدوث أزمة غاز تهدّد كل دول أوروبا التي تستورد نحو 45% من احتياجاتها للطاقة من روسيا الاتحادية وحدها, وبالتالي فان فصل الشتاء القريب سيكون استثنائيا على غير المعتاد في السنوات الماضية لا سيما بعد ارتفاع فواتير الطاقة في أوروبا لمستويات قياسية سترهق كاهل المواطن الأوروبي و تجعله يلجأ للفحم كملاذ أخير لتجنّب برودة الطقس و فاتورة أسعار الطاقة المرتفعة نتيجة قطع روسيا امداداتها من الغاز الذي تعتمد عليه دول أوروبا كوقود لأجهزة التدفئة في فصل الشتاء.
وفي ظل معلومات أوردتها مصادر اعلامية مؤخرا حول مدى قدرة الولايات المتحدة الامريكية على مواصلة دعم أوكرانيا عسكريا و لوجستيا وماليا رغم المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها أمريكا فيما يتعلق بأزمة الدين ونقص المخزون الاحتياطي ومشكلات أخرى تتعلق بالمهاجرين, نجد أن روسيا تواصل حربها ضد أوكرانيا دون ظهور أي مؤشرات لتأثير العقوبات الاقتصادية خاصة مع دخول الحرب عامها الثاني ما يعيد الى الأذهان أجواء حرب النجوم بعد الحرب العالمية الثانية والتي أدّت في النهاية الى انهيار الدولة السوفيتية اقتصاديا ومن ثم تفكّكها جغرافيا الى جمهوريات مستقلة وبالتالي سقوط الامبراطورية السوفيتية الي يحاول بوتين والقيادات الشيوعية الروسية اليوم اعادتها الى ما كانت عليه قبل حقبة حرب النجوم من خلال انهاك و ارهاق الولايات المتحدة اقتصاديا بمعنى أن روسيا تريد اليوم تطبيق نفس مفهوم " مبادرة الدفاع الاستراتيجي" و قلب الطاولة على أمريكا.
ولذلك فإن روسيا تتعمّد اطالة أمد الحرب لكي يستمر الدعم الأمريكي لأوكرانيا و يستمر استنزاف الاقتصاد الأمريكي الى أن يحدث ما يؤول الى تفكك الولايات المتحدة الى ولايات صغيرة مستقلة كما حدث للاتحاد السوفيتي خلال حرب النجوم التي أدّت الى انهيار الامبراطورية السوفيتية في عهد بوريس يلتسن و ليونيد بريجينيف وغيرهم من زعماء الدولة السوفيتية التي لفظت أنفاسها الأخيرة بعد مجاراة الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحرب نتيجة لانهيار الاقتصاد السوفيتي تماما بعد أن أضطر السوفييت في تلك الحقبة الى تخصيص كل موازنة الدولة لصالح برنامج الترسانة العسكرية ومجابهة العدو الأمريكي ما جعل طوابير الباحثين عن لقمة العيش تصل الى عشرات الكيلومترات بحثا عن رغيف من الخبز وقليل من البصل والطماطم والذرة, حتى قيل أن الحكومة الاشتراكية آنذاك لجأت الى توزيع بطاقات تموينية على المواطنين الرّوس لتأمين الحد الأدنى من الغذاء ومجابهة تداعيات الحرب ومنها أزمة الجوع التي تفشّت آنذاك في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي.
وكما ذكرت في مقال آخر بعنوان " نذر الحرب بين القطبين المتنافسين" فان الحرب لم تعد بين روسيا و أوكرانيا وانما بين روسيا وحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تدخّلت في النزاع المسلّح بعد أن غزت القوات الروسية جاراتها أوكرانيا لدعم ومساندة الجماعات الانفصالية المعارضة في منطقة دونباس الأوكرانية التي كانت قد شهدت نزاعات مسلّحة في مارس آذار عام 2014 واندلعت خلالها مظاهرات دموية من قبل الجماعات الموالية لروسيا, وذلك في أعقاب الثورة الأوكرانية التي أطاحت بالرئيس الأوكراني آنذاك فيتكتور يانوكوفيتش, وقسّمت البلاد الى قسم موال للاتحاد السوفيتي و قسم موال لروسيا. وقد نتج عن كل هذه الأحداث ظهور ما يعرف بأزمة القرم عام 2014 والتي أدّت الى استفتاء القرم وبالتالي اعلان قيام جمهورية القرم التي انضمّت الى روسيا لاحقا كم أوضحت في المقال.
لقد وضعت أمريكا نفسها في مستنقع عسكري لم تكن تتوقع أن الغرق فيه سوف يدوم طويلا اعتقادا بأن العقوبات والمساعدات الغربية لأوكرانيا ستجعل الدب الروسي ينسحب من أرض المعركة بكل بساطة, غير أن الواقع الذي فرض حدوثه هو أن روسيا نجحت بمساعدة الصين في جرّ أمريكا الى هذا المستنقع لإضعاف قدراتها الاقتصادية واغراقها في أزمة دين مالية أسهمت في زعزعة موازنة الدعم العسكري لأوكرانيا من ناحية, و أربكت المشهد الاقتصادي الأمريكي والأوروبي من ناحية أخرى. فالولايات المتحدة الأمريكية ليس بمقدورها اليوم أن تسحب الدعم العسكري عن حليفتها أوكرانيا خوفا من تمدّد القوات الروسية باتجاه القواعد العسكرية لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية وابتلاع بولندا و رومانيا وبلغاريا وليتوانيا ولاتفيا وسلوفاكيا وغيرها. ولهذا فليس من خيار متاح سوى استمرار أمريكا في الدعم العسكري على حساب اقتصادها ومكانتها عالميا باعتبارها القطب الأوحد المهيمن عسكريا واقتصاديا وسياسيا.
من هنا نفهم أن بوصلة المعسكر الشرقي تتجه سياسيا الى معاملة حلف شمال الأطلسي بمثل ما تم به معاملة الاتحاد السوفيتي ابّان حقبة حرب النجوم التي فككت الامبراطورية السوفيتية و مكّنت أمريكا من ترسيخ قواعدها العسكرية قبالة حدود أوروبا الشرقية مع روسيا.
وفي تقديري كمحلل سياسي ومراقب للشأن الدولي, أنه في حال تمكّن الرّوس من الصّمود والبقاء في دائرة الصراع المسلّح لسنوات قادمة, فان الحلفاء الأوروبيون لن يكون بمقدور أي منهم انقاذ الولايات المتحدة وأعضاء التحالف الغربي من شبح كساد اقتصادي قادم قد يسهم في تفكك دولة عظمى الى ولايات أو جمهوريات صغيرة, وانهيار نظام مالي عالمي ذلك أن حلفاء روسيا كالصين والهند وكوريا الشمالية وبعضا من أعضاء مجموعة البريكس والبريكس بلس سوف ينضمّون تلقائيا الى مسار عالم متعدّد الأقطاب مما يعزّز فرضية سقوط الولايات المتحدة اقتصاديا وبالتالي ظهور نظام عالمي جديد تتربّع على عرشه كل من الصين و روسيا وفنزويلا والبرازيل وجنوب أفريقيا وأعضاء آخرين في مجموعة شانغهاي ومجموعة العشرين ومجموعة البريكس الغنية بالثروات الطبيعية والقدرات العسكرية والموارد الطبيعية.
من هنا نلاحظ أن الحرب بين روسيا و أوكرانيا ليست حربا عسكرية فحسب و انما أيضا حرب اقتصادية وسياسية يميل ميزان القوة فيها لصالح روسيا التي لم تكتف بقطع امدادات الغاز فقط وانما لجأت كذلك الى وقف وتعطيل صادرات حبوب القمح من الموانئ الأوكرانية كما ذكرت في مقال سابق بعنوان " صادرات الحبوب وتهديد الشعوب", لأجل كسب تأييد الدول الفقيرة والدوران في فلك روسيا والصين اقتصاديا وبالتالي فلا مجال أمام الدول التي تعتمد على القمح الأوكراني الا بتخفيف قيود التعاملات التجارية مع روسيا وتعزيز العلاقات الثنائية معها مقابل تمرير شحنات القمح ولو بعد حين.
ان استمرار هذه الحرب الاقتصادية و اطالة أمد العمليات العسكرية سيكون له تداعيات خطيرة على جميع سكان كوكب الأرض من حيث الانفلات الأمني في دول كثيرة ومن حيث تلوث الهواء بالغازات السّامة اذا ما تطورت الحرب التقليدية الى حالة الحرب النووية لا سيما و أن روسيا ذكرت سابقا بأنها لم تعلن بعد التعبئة العامة في اشارة الى امكانية استخدام السلاح النووي وتدمير محطّات الطاقة النووية في زاباروجيا بأوكرانيا ما ينذر بوقوع "هيروشيما جديدة" في القرن الحادي والعشرين.