لا تتغير الثقافات الإنسانية المرتبطة بالموروثات إلا بعد بعد قرون ، تكون نتيجة تراكمات أوجدتها صراعات واضرابات في منطقةٍ ما ، لكن هذا كان بالماضي ، أما نحن في هذا العصر ، فلا يمكن تصّور قدرة التكنولوجيا على التغيير في العقول والأفكار والقناعات ، وكذلك الألسن واللغات .
ولطالما كانت الجزيرة العربية في منأى من حركات التغيير الثقافية التي حدثت في بلدان المغرب العربي والشام نتيجة الانتدابات العربية والتي أعملت تغييرا هائلا في تغيير تفكير الكثيرين هناك من خلال إستعمار امتد لعشرات السنين ، فكانت نتيجة ذلك أن تكون لهجة المغاربي أقرب للفرنسية منها للعربية .
ولكن لا يطول الحال كما هو عليه ، فتلك البلدان التي تربطنا بها روابط الدين واللغة والنسب ، قد بدأت بالتعافي الثقافي نتيجة اضمحلال أفل الاحتلال الغربي منها . ولكن نحن في الجزيرة العربية ، صحيح أننا ولله الحمد لم نتعرض لاحتلال عسكري ، غير أن التكنلوجيا لمّا أطلت برأسها علينا ، بدأت معها تأثيراتها السلبية غير المرئية ، فالتكنولوجيا تلزمك باستعمال لغة صاحب صنعتها ، وأنت ملزم بفهم مصطلحاتها للتعامل معها بكافة أشكالها ، غير أن من ضحايا هذه الحركة المستمرة هو " الشعر النبطي " ، حيث أننا نعيش الآن في مرحلة لم نعد قادرين على فهم قصائد لها مئتي عام فقط . ليس ذلك اعتلالا بعقولنا بقدر ماهو نتيجة طبيعية للانتقال من بيئة البادية الثرية بالمصطلحات العربية ، إلى بيئة متطورة فقيرة وتكاد تكون محصورة على عددٍ قليل من الكلمات يكفي فقط لتسيير أمورنا الحياتية ، وإن قلنا أن من تجاوزت أعمارهم الخمسين لايزال لديهم مخزون لغوي جيد ، إلا أن أبناءهم ممن هم أعمارهم بالثلاثين والذين أصبحوا آباء قد ولدوا وترعرعوا بعصر الآلة التي يقتل اللغة بصمت ، ومن هنا أستذكر أبياتًا للشاعر عتيق الوابصي رحمه الله والتي يقول فيها ؛
حنيت حنّت مواليف البعاريني
على عيوفٍ تدب الشرب من ماها
حنّت خلوجٍ تصفقها الرعاويني
والذيب ولدها ولدها في معشاها
هذا الشاعر والذي توفي قبل قرابة العشرين عام ، قد يحتاج منّا البعض للعودة للقاموس لفهم كلمات مثل ، عيوف ، تدب ، خلوج ، والرعاويني ، وقس ذلك على قصائد من سبقنا ، وقد تجد كلمات نعرفها لكننا لا نستخدمها وهنا تكمن الخطورة مثل الريع ، القفر ، العبرود ، النفاه ، العسام وغيرها بحكم عدم وجود ضرورة للتحدث بها . غير أن عدم استخدامها في محادثاتنا يعني جيلا قادما أكثر فقرا بالمصطلحات العربية الفصيحة التي هي عماد الشعر وعصبه ، مما يجعل الشعر النبطي ينكفأ أكثر وأكثر حتى ينفصل عن الواقع ، ويصبح حصرا على النخبة المثقفة التي تتنطع فيما تقول ، ومع كل يوم ، تعصف رسال التكنلوجيا بتلك الرمال الصغيرة التي كونت ذلك الجبل العظيم لتكفكف أطرافه وتغير معالمه .