يتسابق الناس مع إطلالة العام الجديد إلى المباركة والتهنئة وإهداء الدعوات وتقديم النصائح والإرشادات، وهذا -بلا شك- إنما يدل على استشعار أهمية استقبال سنة جديدة بشيء من التغيير والتحسين، لكن الأمر الأهم من ذلك، هو العمل الذي يلي تلك المشاعر المهداة، ويحدث بعد قوالب النصح المتداولة.
إن الوعي بجودة الحياة وتأمل أبعادها ومعرفة الطرق المؤدية إليها كفيل بتسهيل عملية التغيير والتحسين، واكتساب السعادة والرضا عن الحياة، والاستمتاع بجوانبها المختلفة.
ولأن جودة حياتنا مرهونة بما نعتقده من أفكار وما نمارسه من عادات، بالإضافة إلى ما نجده من خدمات تغطي احتياجاتنا ورغباتنا؛ فإن تحسين ذلك يؤدي غالباً إلى حالة الرضا والسعادة. ومن هنا؛ ينبغي استحضار ثلاثة أمور في غاية الأهمية مع وداع عام واستقبال عام آخر، تتمثل هذه الأمور في: تأمل واقع العام المنصرم، وإعداد خطة العام الجديد، ومعرفة كيفية الاستفادة من ذلك للوصول إلى مستقبلٍ أجمل، وحياةٍ أفضل.
أما تأمل الواقع فيكون بالنظر إلى ما تم وما لم يتم تحقيقه، والتفكير في الأسباب التي أدت إلى ذلك. ويكون التخطيط للعام الجديد بتحديد أهداف واضحة في كل جانب من جوانب الحياة، مثل الصحة والعمل، والعلاقات الاجتماعية، والتعليم. وكذلك تحديد ما يتطلبه تحقيقها من موارد كالوقت والمال والمعرفة.
ولعل الكيفية التي يتم بواسطتها قراءة الواقع وإحداث التغيير تحتل الجزء الأكبر من الجهد، ولا يمكن لمقال كهذا أن يستوعب الحديث عن تفاصيل العمل اللازم لتحقيق ذلك، ولكن على سبيل الإجمال؛ فالخطوات الأكثر أهمية لا تخلو من تحديد الأولويات، وتحديد فرص التحسين، بالإضافة إلى إعداد خطة مكتوبة، فالتصورات التي نضعها في أذهاننا لما نريد أن نصل إليه دون كتابتها لا تعد خطة عمل، وإنما هي أمنيات ورغبات، قد يتحقق جزء منها وقد تُنسى كلها. ومن المهم أيضاً أن تشتمل خطوات العمل على متابعة التقدم وتقييمه من خلال التأمل والتقويم المستمر. وإضافة إلى ذلك يجب الاستمتاع بالمنجزات التي يتم تحقيقها والاحتفال بها ومكافأة النفس والشركاء بعد كل منجز فإنه أدعى لاستمرارها.
وقد تختلف الجوانب التي تتضمنها خطة تحسين جودة الحياة إذ أنها تعتمد عادة على ذاتية الأفراد والبيئة الثقافية والاجتماعية التي تحيط بهم، ولكن بشكل عام؛ ينبغي التركيز على جوانب معينة مثل (الصحة العامة) التي يمكن تحسينها من خلال تحسين النظام الغذائي وممارسة التمارين الرياضية، واتخاذ سبل الوقاية من الأمراض، والحفاظ على الصحة النفسية. وكذلك العناية (بالعلاقات الاجتماعية) سواءً داخل الأسرة أو العلاقات مع الأصدقاء والجيران والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد. فالعلاقات الإيجابية لها الأثر البالغ في تحسين جودة الحياة. ولا يقل أهمية عن ذلك بعدي (التعليم والعمل) وتشمل الوظيفة ومستوى الدخل والاستقرار المالي ووجود فرص العمل وفرص التعليم والتدريب المهني. كما تشمل النمو الشخصي والتعلم وتطوير المهارات واكتساب معارف جديدة. ويمكن العمل على ذلك عن طريق القراءة، والدراسة، والتعلم الذاتي.
ومما ينبغي التركيز عليه في خطة التحسين هي (جودة البيئة) وتشمل البيئة الطبيعية المحيطة بالفرد كالهواء والماء والجو والمساحات الخضراء. والبيئة العمرانية كالمنزل، والمخطط السكني، والحدائق، والمنتزهات، والمرافق العامة، والخدمات. وذلك برفع مستوى الجودة في المكان أو باختيار مكان مناسب للعيش. أضف إلى ذلك أهمية التركيز عند إعداد الخطة على (إدارة الوقت الحر) وتعني الاستمتاع بأوقات الفراغ وملؤها بما يعود على الفرد بالسعادة والرضا وتشمل الترفيه والفنون الثقافية، والأدب، والرياضة، والسفر، وممارسة الهوايات والاهتمامات الشخصية، والمشاركة في الأنشطة والفعاليات التي تساعد على الاسترخاء وتعمل على تسهيل التواصل مع الآخرين، وفي ظل ذلك يجب الحذر من إدمان وسائل التواصل الإلكترونية أو ما يسمى (بالسوشال ميديا) لما فيها من ضرر كبير على الصحة والوقت.
وفي ضوء العناية بالأبعاد الخمسة آنفة الذكر؛ ينبغي معاودة السعي مرة بعد مرة لبناء عادات إيجابية جديدة تسهم في تعزيز حالة الرضا الذاتي في كل جانب من جوانب الحياة. فأسلوب الحياة ونمط العيش هو انعكاس لسلوك الفرد وعاداته، مما يعني قدرته على تغييرها وتطويرها بالممارسة والتدريب. فاعتياد النمط الغذائي المناسب للفرد على سبيل المثال يؤدي إلى تحسين جودة حياته الصحية، والمبادرة ببناء عادة رياضية معينة كفيلة بملء وقت الفراغ بنشاط يعود بالفائدة على جوانبه النفسية والبدنية، كما أن المداومة على قراءة الورد اليومي من القرآن الكريم والإكثار من الاستغفار والذكر مدعاة لاطمئنان نفسه وسبيل لتحقيق سعادته، وبالتالي يرفع ذلك من مستوى جودة الحياة لدية. وهكذا فإن الحرص على استمرار وضع الأهداف الشخصية وبناء الخطط ومتابعة تنفيذها وتقويمها في كل عام يزيد من فرص تحسين جودة الحياة للفرد والمجتمع.
بقلم: د. عبدالهادي بن براك الصاعدي.