في تضاعيف سيرة العتوم تضاعفتِ الفوائدُ وأتتْ من كل مكان، والذي زاد من أُوَارِها هو روحُ الشاعر التي تعالتْ على كُلِّ شيء و أطفأتْ كُلَّ الشموع إلا شمعة الإلهام فإنَّها متوقِّدة في كهف الأسرار حيث الإلهامُ باسطٌ جناحية، وعلى تلك الروابي الخضراءِ انغمستْ نفسي فكل ما أرادتِ النَّفسُ هنا قد حلَّ بين تلك المُسطَّحات المُتَعرِّجة التي يرقص فيها الشعورُ جَذِلاً.
ضمَّتْ هذه المذكراتُ للروائي والشاعر أيمن العتوم بصفحاتِها التي زادتْ عن ثمانيمائة صفحة والمرقومة بـ(هذه سبيلي)، أجناساً أدبيةً متنوِّعةً فمن السيرة الذاتية، إلى الرواية، إلى الشعر، إلى النَّقد الأدبي
بموسيقى لُغَويَّة وتقاسيم موزونة تريحُ الأعصاب.
جعل للكتابة فصلاً كما أشار هو إلى أنَّ فصل الكتابة هو لُبُّ كتابِه هذا، وفي هذا الفصل تحدَّث عن الشعر حديثاً بفيضان الشعور الذي يمرَّ كالطيف في جفن الوَسْنانِ، وهل الشعر والرواية موهبةٌ أم صناعةٌ أم كلاهما؟
أعتقدُ أنَّه شفى نفسَ قارئِه بفيض شعورِه حين أجاب
بأنَّهما مختلفان وذلك أنَّ " الشعرَ موهبةٌ، والروايةَ صناعةٌ، هكذا باختصار، الشعرُ تغلبُ فيه الموهبةُ الصناعةَ، والروايةُ تغلب فيها الصناعةُ الموهبةَ".(١)
غلبتِ الموهبةُ الصناعةَ إذن، فلذا عندما يتصنَّعُ أحدُهم الشعرَ فإنَّه يجني على مسامع خلق اللهُ، ويبثُّ الكراهية في النُّفوس ويقلِّب الأرواح على جمر الغضى، فلابد من إصدار حكم إعدام أدبي على هؤلاء لأنَّهم لو عرفوا كيف يتدفق الشعرَ لَخجِلوا من أنفسِهم أن يَتسوَّرُوا تلك الأبوابَ وقد أُغْلِقتْ في وجوهِهم ولكنَّهم تقحَّموها وعيونُهم تبرُقُ من الخزي الذي جلَّلَهم أمام أعين الناظرين، ولكنَّ عُذرَهم إنْ كان لهم عذرٌ عذرُ الجاهل الذي لم يكنْ عالِماً، بينما الشاعرُ كالعالم الذي كان جاهلاً فأصبحَ وقد عرف الجهل -بينما ذلك المُتَصنِّع بالجهل جاهلاً- فلمَّا نمتِ الموهبةُ الشعريةُ معه وربَّاها "كما يُرَبِّى أحدُكم فَلُوَّهُ"، وصقلَها بالتجارِب والثقافة، وتدرَّجتْ معه في توقُّلِ الأعالي، أشفق على ذاك الذي لا تزيده الليالي إلا سُفُولاً في دركاتِ التردِّي.
ولستُ روائياً حتى أقول بوجهة نظري ولكنَّني قارئٌ مُبتدأٌ للرواية التي أعرضتُ عنها صفحاً سنين عدداً، حتى جاءتِ اللحظةُ التي ولجتُ سراديبَها وعوالمَها، وأنا نادمٌ على ما فاتني من أيامٍ لم تكنْ فيها من واردي، فكيف أضعت هذا السرد الحِكائيَ وتكثيفه لا أدري!
من بيِّنات كلامه عن إلهام الشعر وصَفَ العتوم هذا الوصفَ البديعَ وذلك أنَّ "الكتابةَ بوجهٍ عام تحتاجُ إلى صفاء نفسٍ و ذهنٍ، لكنّ الشعرَ يحتاج إلى هذا الصفاء أكثر من الرواية، فيمكن أن تكتبَ فصلاً من روايتك وأنت جالس في المقهى وسط الضجيج الداخلي والخارجي، أمَّا الشعر فإنَّ أقل حركة أمام عينَيه تزعجه وتجعلُه يهرب بعيداً ولا يعودُ إليك إلا إذا شعر بالأمان".
والشعر إلهامٌ سماويٌّ، عصيٌّ على القبض، يمرُّ ولا يتريَّث، يسمو بالروح في هدئة من الزمن فإذا ما فاتك هذا الإلهامُ أوَّل عبوره لانتهى ألقُه وابتدأ أرَقُه! يعود إذا تطلَّبتَه بعدها وخطبتَ ودَّه بكل ذِكرى جميلة ولكنَّ عودَه ليس كطرافتِه أوّلَ مرة، تودُّ لو أنَّ الدنيا تسكتُ كلَّها حتى يتسنَّى لك إفراغُ روحك مع المداد حين مجيئه لتكتُبَه وقد نزفتْ روحُكَ معه، وهذا الإلهام حسَّاسٌ للغاية البعيدة فلو مرَّت بخيالك أثناءَ مرورِه فكرةٌ تغُضُّ منه لفرَّ من فوره وسما يُحلِّقُ بعيداً عن كل هذا الأفكار الجارحة لحسِّه المُرهف الخلَّاق، وإن أنت نظرتَ إلى نفسك في لحظات ولادة الشعر وتذكَّرتَ بعض همِّك، جفل الشعرُ عنك كما تجفل الغزلان في شَعَفات الجبال عن الصيادين.