منذ فترةٍ سابقةٍ من الزمن، قرأتُ كتاباً لوليد قصاب عن المذاهب الأدبية الغربية، وكان لهذا الكتاب وقعٌ في نفسي يعتمل من أول قراءةٍ له طالعتُها فيه، وذلك أنَّه أوجز في شرح المدارس الأدبية الغربية، وبيَّن من خلال ذلك الملامح العامة في المذاهب الأدبية والخطوط الدقيقة والفوارق بينها، إلى أن ربط بين هذه المدارس التي ظاهرُها الرؤية الفنية المحايدة وباطنها الرؤية الأيديولوجية والسياسية التي تضع تفاسيرَ للحياة والإنسان والكون، وهي بذلك تُظهر بجلاء الإنسان الغربي وهو يمارس الفوقية الثقافية والمركزية الأُحادية، ثُم تطرَّق إلى هذه الرؤى و أوضح الأسس الفنية العامة التي هي ملك للجميع وهي من وعاء الحكمة التي يملؤها المسلم بالمفيد، وذكر الجانب المُتمثِّل بالبعد الديني بقوله: "ينبغي ألا يخفى على أحدٍ أنَّ المذاهب الأدبية الغربية ليست نشاطاً معرفياً محايدًا، وهي ليست مجرد نظريات وأفكار في الأدب واللغة والنقد وقضاياها المختلفة فحسب؛ ولكنَّها تمثل فلسفات فكرية، وتصورات عقديَّة عن الكون والإنسان والحياة بل عن الأديان والألوهية في أحيان غير قليلة"(١)
والأدب له درجةٌ عاليةٌ من الخطورة في التوجيه الأخلاقيِّ والقَِيَمِيِّ، فالأثر الذي يتركه في النَّفس كما قال هوراس من متعة و فائدة هما اللَّذَين عليهما اتَّفقت آراءُ نُقاد الأدب ومُورِّخيه عبر مشاربِه ومدارسِه المتنوعة، فكأنَّ المُتعة وسيلةٌ لإيصال الفائدة ثم يكون الأثرُ قد بقي وتركَّز واعْتَملَ، وليس هناك دلالة على تأثير الأدب العميق في النفوس من قولِ جوزيف ستالين: "الأدباء هم مهندسو البشرية".
أمّا الهشاشةُ التي تنتشر بين المجاميع من الناس، في الذوق وطرائق التفكير والتربية إنما نشأتْ بسبب تنشئتهم على الأدب الردئ الذي ليس له أسسٌ فنيةٌ معتبرةٌ ولا له أصولٌ جامعةٌ منضبطةٌ تُبنى عليها القيمُ والمبادئُ، فلا غَرْوَ أن تُخرِجَ هذا الآدابُ التي نسميها آداباً تجوُّزاً، وإلا فهي من الاتِّضاع بمكان والدليل أنَّها أنتجتْ هذه الدُّمى التي يلهو بها البُلهاء.
وأنا قد تشعَّب بي الاستطرادُ وعذري أنَّه استطرادٌ في ذات الموضوع يُفيدُ ولا يُعطِّل حبلَ الأفكار، وأعود إلى حديثي معكم عن هذه المدارس التي كانت الواحدة منها تقوم على أنقاض الأخرى، فالمذهب الكلاسيكي الجديد، بدأ في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي و ظلَّ مسيطراً على أوروبا إلى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الثامن عشر الميلادي الذي شهد نهاية (الكلاسيكية الاتِّباعية) وابتداء الرومانسية. والكلاسيكية كانت تستمدُّ من المنزع العقلي أطُرَها الفنية التي تحتكم إليها في العمل الأدبي بعيداً عن الشعور والعاطفة وكذلك عدم الإيمان باللاوعي في خلق الأعمال الإبداعية من شعر ونثر، والأجناس الأدبية الأخرى ولكنَّ الرومانسية تثور في وجهها و تَظْهرُ مبادؤها في مقدمة ديوان الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث (قصائد قصصية غنائية)، (١٧٧٠-١٨٥٠م)، وكذلك الشاعر الفرنسي ألفرد دي موسيه (١٨١٠-١٨٥٧م ) أحد أعضاء الحركة الرومانسية في فرنسا، الذي أنحى على الكلاسيكية الجديدة وهو يقول: "أول مسألة لي هي ألا ألقي بالاً إلى العقل (يقصد العقل بمعناه في الكلاسيكية الجديدة)، ثم ينصح صديقاً له أنِ اقرع باب القلب، ففيه وحده العبقرية، وفيه الرحمة والعذاب ،والحب، وفيه صخرة صحراء الحياة، حيث تنبجس أمواج الألحان، يوما ما، إذا مستْها عصى موسى"(٢)
ثم توالى ظهورُ المذاهبِ الأدبيةِ متتابعة من الواقعية إلى إلى البرناسيَّة ثم الرمزية والدادائيّة، والسريالية إلى الحداثة وما بعد الحداثة، في أشكالها الأدبية المُتغايرة
وقد ذكر شكري عياد أنَّ : "الحداثةَ ليست مذهباً أديباً أو فكرياً قائماً بل هي مقولة زمنية"، وهذا التوصيف من أديبٍ تخصص في دراسة الحداثة ومقولاتها لم يأتِ اعتباطاً وإنما هو بناءً على معرفة ودِراية، يبرهنه كلامُه عنها وذلك بوصفه إياها محاولة مستحيلة للبحث عن معنى بغياب فكرة اللهُ، هذا الغياب جعل التخبُّط في دياجير الظُّلَم هو المُحصِّلة والنتيجة للمقدمة الأولى، وصدق القائل: "مَنْ فقد اللهُ فما وجد، و مَنْ وجد اللهُ فما فقد".
أمَّا الواقعية الاشتراكية التي تتخذ من ماركس مُنظِّراً لها والتي كان لانعكاس شخصية ماركس عليها بصمات واضحة، كان سعيُها أن تُحرِّر طبقة البروليتاريا من الرأسمالية فالتطبيق يختلف عن النظرية، والممارسة غير التنظير، ولعلّ فظائع الاشتراكيين حينما وثبوا على السلطة أبانت عن خلل عميق في بناء هذه النظرية واضمحلال معاني الإنسانية وظهور الوجه القميء، لأقطاب هذه النظرية.
إنَّ الوعيَ والإدراك وكذا التأمُّلَ في مسالك هذه المذاهب، يُجلِّي صورةً يُدرَكُ من خِلالِها اعتمالُ الأفكار في الجماهير، وسعة الاطلاع مهما كانت مستفيضة في حقول المعرفة، إلا أنَّها بالتأصيل العلمي والشرعي تنضبط، وتكون منهجيةً في الاستقصاء والتصويب للأخطاء، وكذا الاصطفاء والاختيار من الحضارات البشرية القديمة والحديثة، بلا جَنَفٍ أو ذوبان.
سالم صعيكر البلوي
——————-
١-المذاهب الأدبية الغربية، وليد قصاب، الألوكة،الطبعة الأولى، ص٢٩
٢-الأدب المقارن، محمد غنيمي، عن طريق، نظرية الأدب، شفيع السيد، عالم الأدب، الطبعة الرابعة