إلى هذه اللحظةِ وأنا أنظرُ مِن حولي لِأرى أكداساً مُكَدَّسةً من تلك المعارفِ والعلومِ والفنونِ التي امتلأَ بها المكانُ و رَبَتْ حتى غدتْ مكتبةً على سوقِها، تُعجِبُ القُرَّاءَ وطلابَ العلم.
لله هذه الأسفار! كم تحوي من الحِكم وكم تطوي في جوانِحِها من الحِقَبِ والأزمان المتطاولة، كم بها من حكمةٍ لحكيم، وكم بها من نادرٍة لأديب تطيبُ لها الأرواح وتفتنُّ بها القلوب
باللَّهِ يا ظَبَيَاتِ القاعِ قُلْنَ لنا
ليلايَ مِنكُنَّ أم ليلى من البشَرِ
يا هذا دعْ عنك، والله ما طابتْ الدنيا على همومها إلا بها، ولولاها لَمَا شرَّقَ مشرقٌ ولا غرَّب مغرِّبٌ، بهذا المحراب نتداوى معشر القراء من ثِقْلِ الثّقلاءِ، وسماجةِ الحمقى.
لقد مرَّ بي أحدُ هذه المصنَّفاتِ في شرحِ حِكَمِ ابنِ عطاء الله السكندري الموسوم (بالتنبيه)، لأحد أئمةِ القومِ العارفين فما زادني والله إلا تثبيتاً وأملاً وروحاً من تجلِّيات نفحات الرحمن الرحيم، فقل لي من ذا الذي يأتي بهذا الأمل الذي تختنق به النفوس من علل المنهج المادي الذي ليس به إلا حساب التكلفة و القيمة المُضافة، والجندر وغيره من الأغاليط
سَقوني وقالوا لا تُغنِ ولو سقوا
جبالَ حنينٍ ما سُقيتُ لغَنَّتِ
يا أيَّتُها الظلال الوارفة من استظلَّ بك تفيأَ ونَعِمَ من وهج الإحراق، إحراقِ الجهل المركب وليس البسيط الذي تهونُ معالجتُه، ولي في هذه الأسفار ألفُ حديثٍ وحديث، تلك ورقةٌ من كتاب (سير أعلام النبلاء )للحافظ الذهبي فيها ترجمة لحماد بن سلمة المُحدِّث العابد الثِّقة، قُطِعتْ في ظروفٍ غامضة وأتتْ مع الرياح، فدخلت زواية الورقة مع اشتداد الرياح تحت أحد الحجارة المُلقاة في الوادي فلا هي التي ذهبت مع الريح ولا هي التي بقيتْ ساكنة فكأنَّ صوتها داعيةُ الجلالِ إلى فصول الجمال، تأمَّلتُ هذا المشهد وقد أثار لواعج الحزن في نفسي، وعجبتُ لهذه الاتِّفاقات وتينك المصائر.
لا يغُرنَّك الذين يُرزقون كما تُرزق البهائم وليس لهم موعد مع الكتاب، بل هؤلاء دليل من دلائل عظمة الوهاب الذي يُعطي ولا يمنع، وقد تكفل برزق العجماوات في أماكنها،
قل للذي بِصُروفِ الدَّهْرِ عَيَّرَنا
هلْ عاندَ الدهرُ إلا مَنْ له خَطرُ
لا تقلْ أنَّ في هذه الدنيا ما يعدِل لذةَ العلم والمعرفة كلا والله، إنَّ الذي وُفِّقَ لهذا المسلكِ ليجدُ فيما يشعرُ من اللَّذَاذَةِ ما يفوقُ كنزَ الذهب والفضة التي يجدها أرباب الأموال في كنوزهم، لقد تفكَّرتُ يوماً في حالي وأنا الذي قصَّر بي الجَدُّ عن كليهما، وأنا منغمسٌ في أحد كتب السلوك وإذا بالذي أهمَّني من جمع المال قد ذهب بعباراتٍ حلَّقتْ بسموِّها عن الطين والإخلاد إليه، وتفرَّقت وساوسُ الشيطان بأقوال الحكمة و فرقان البيان.