أحياناً نشعر أو نتوقع أننا في قمة جبل العقل وعلى أعلى مستوى من السيطرة والتحكم في ذواتنا، بينما نحن في بطن وادي الجهل وفي أقل مستوى من التحكم والسيطرة وقريبين من فقدانهما، والعكس أيضا صحيح أحياناً نعتقد أننا محاطين بطوق من المخاطر والضائقات وكلنا نقاط ضعف، بينما نحن نمتلك ونسيطر على أكثر نقاط القوة المؤثرة في ذواتنا والعديد من المنافذ متاحة، ولمثل هذه التصورات أن تؤثر على رؤيتنا للأشياء والناس من حولنا، على سبيل المثال عندما نصدر حكماً ما أو قولًا ما على هذه الناس والأشياء بانها صحيحة أو خاطئة ، وعندما تتشكل بعض الظروف حولنا والتي بطبيعتها تحملنا مسؤولية أحكمنا واقوالنا وقرارتنا، تساورنا الشكوك مما يؤدي بنا الى إعادة النظر في حكمنا الاول ومع أن كل الأدلة والبراهين الذين بناءً عليهم قمنا بتصحيح حكمنا الاول بعد إعادة النظر، لم تتغير وكانت موجودة من قبل وبعد إعادة النظر، وكأننا لم نكن واعين لحظة اصدار الحكم الأول بينما عاد لنا الوعي في حالة اصدار الحكم الثاني، ومن ضمن مسببات التناقضات بين الحالة الأولى والثانية وغياب الوعي وحضوره غياب بعض الظروف التي تحملنا المسؤولية والمسالة التي تقع علينا جراء ذلك، ايضاً من ضمن الأسباب أننا محاطين بالغموض والتقلبات اتجاه فهمنا لأنفسنا لا بتجاه ما نفعله أو ما نقوله، لأننا في حال وضوح فهمنا لأنفسنا تتسق اقوالنا وافعالنا معها وفي حال الغموض والتقلبات تكون كذلك، لكن في حال كانت أقولنا بنادق وأهدفنا حقيقية ونحن الرماة، فهل سوف نتعامل معها بتهاون وعدم مبالاة أو نتعامل معها بحذر ودقة.
هذا المقال مفتوح وليس مغلق ويمكن أن يساعدنا بإيجاد حلول لبعض الإشكاليات التي تعترضنا أحياناً، ويمكن لاي واحد منا أو من يقرآ هذا المقال أن يستبدل كلمة (القول / البندقية) بأي كلمة أخرى يُريدها، مثل التوقع أو النية أو التفكير أو الفعل أو القصد أو الفهم أو الإحساس أو الأسلوب أو أي شيء أخر ينتج عنا أو منا، ولتوضيح ما قصدتهُ في قول ما ينتج عنا وما ينتج منا، فالأول نكون نحن الفاعلين أو المنشئين الأوائل له، بينما الثاني لسنا نحن المنشئين الأوائل له ونكون نحن ردة فعل أو استجابةً له، لكني اخترت القول لأنه في رائي يجتمع فيه كل ما سبق ولأنه لا يقل أهمية عن أي شي آخر بل هو أداة رئيسة مهمة من أدوات اللغة، واللغة هي البوصلة التي تنظم مسارات التعامل بين الناس، لكن بسبب عدم الوعي بأهمية القول قلة قيمته وأصبح يقال بلا وعي وبلا قاعدة أساسية أو عمق أو هدف وأضح ، وربما من أتى بمقولة (أن الناس يقولون ما لا يقصدون ويقصدون مالا يقولون) أصاب في كثيراً من الأحيان.
عموماً دعونا نستمر ونقول، فالقول أو الكلمة التي وضعتموها بدل منه كلها تبدأ من الداخل، ونحن نمتلك المصانع بداخلنا وخاضعة لسيطرتنا ونستطيع إيجاد الموارد اللازمة ، إما الموضوع الذي نصنع أو نُعد له هذا المنتج في مصانعنا الداخلية، فهو يبقى منفصلًا عنا وله كينونته الخاصة به، فالقاسم المشترك بيننا وبين الموضوع هو تمثل أو تصور للموضوع في مداركنا، ويمكن أن ينطبق هذا التصور مع واقعه الحقيقي أو لا ينطبق، ففي كل الحالتين فالموضوع لا يتغير بفهمنا له، أنما فهمنا له هو الذي يتغير وبتغير فهمنا للموضوع، تصبح الصورة هي الموضوع لكن في الحقيقة انها ليست الموضوع، انما هو القاسم المشترك الذي صنعناه بيننا وبين الموضوع، وتتأثر صناعة هذا القاسم المشترك بعدة عوامل كثيرة يمتد اثرها (العوامل) لجميع الأطراف المعنية بالموضوع، وربما يبدو لنا الامر بسيطاً أن ننجح في إدارة الموارد والمصانع التي نمتلكها والخاضعة لسيطرتنا والواقعة تحت تصرفنا لخلق قاسم مشترك مناسب يأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل المؤثرة والأطراف المعنية، لكنه أمرًا في غاية الصعوبة والتعقيد والتحدي صحيح أن المصانع موجودة ويمتلكها الجميع بنفس المستوى وهي عطا رباني لكن الصعوبة تكمن في اختيار الموارد المناسبة والفاعلة وكفاءة تشغيل المصانع بالطريقة السليمة ومطابقة أجود المعايير الإنسانية، وهذا نوعاً من أنواع الحمد والثناء لهذا العطاء الرباني العظيم.
والاسئلة التي تلح علي وتقول أطرحني ولا تهملني !! هي، هل فعلا لابد أن يجبر الناس لكي يرسون في مرسى حقيقتهم أو يفهمون حقيقتهم ؟ وهل فعلا أنهم يضعون اهداف من دون معرفة الغاية منها؟ وهل هم يبحثون عن الراحة المتعبة بدل التعب المريح؟ وهل يفضلون الفوائد العائدة الانية بعض النظر عما يحلق في سماء مستقبلهم بسببها؟ ولماذا نمر على بعض المعايير الانسانية مرور الكرام؟ ونكتفي بالإجابات المشوهة مثل إن ما هو آتاً آت، والظاهر يستر الخافي، والكليات تغني عن الأجزاء وكان الكل ليس مكون من الأجزاء، ولماذا نتهرب عن طرح بعض الأسئلة التي تعني ذواتنا؟ والتي نملك الإجابة عليها لكننا لا نستطيع البحث عنها، ولماذا نضع حمل الإجابات الذاتية التي تعنينا على عواتق غير عاتقنا مثل المجتمع أو الدولة أو المنظمة أو الاسرة أو الأصدقاء؟ عندما نتمعن في فكرة الهرب من هذه الأسئلة ونعيها جيدا يصبح الامر مرعباً ومخيف للغاية، ومجرد أن نعيد النظر فيها نصل لحقيقة تقول ان الحقيقة تغيير ولا ثبات لها، لان الحقيقة هي التي يتطابق بها الواقع مع الموضوع وليس الذات مع الموضوع، وأن حصل تطابق بين الذات والواقع والموضوع فهذا أمراً مفضل ومحمود، لكن من يقول أو يعتقد انه وقف في مرسى الحقيقة وهو يكذب على نفسه كمن يغير المرمى باتجاه الكرة ويفرح بتسجيل الهدف،
فإذا كان هناك مرسىً لحقيقتنا ومعياراً جيداً وصحيح، فهذا المعيار التي يمكن أن نقول انه ثابت هي الاخلاق والقيم الإنسانية والدينية والوطنية والقانونية وينسدل تحتها الكثير من الأمور والتعاملات المتجددة والتي لا نهاية لها مثل العلم والاقتصاد المال الاعمال والتقنية الرقمية الى أخر القائمة التي بلا أخر، وكل القائمة يمكن أن تستخدم لضد هدفها أن لم تأخذ المعايير السابقة في الاعتبار، لكن مواضيعنا ومجالات الحياة تتغير وواقعنا يتغير وذواتنا تتغير ومفاهيمنا تتغير فلا يصح أن نستند على قاعدة أن كل جديد ملوث أو قاعدة المؤامرات وهذا يقودنا في النهاية الى التكفير بدل التفكير
فإذا كان لدينا مشكلة خاصة تعيق جودة ما ينتج عنا للأخر، سوف يكون عند الاخر مشكلة أكبر تعيق ما ينتج منه لنا، وأنا اكتب عن هذا المقال ربما أنني لدي مشكلة في توصيل الفكرة، اذا كان هناك فكرة، فإذا كان كذلك فلا مشكلة أن يواجه المتلقي مشكلة في فهم ما أقول وينتج منه ما لا قصدتهُ، وايضاً لكي لا اقع في مغالطة قمة الجبل وبطن الوادي، فقبل ذلك أنا أدرك بأن الناس لا تفعل ما يملا عليها باقتناع حتى وأن كان مدروساً ومعروفاً ونافعاً وصحيحاً فهم يندفعون بتجاه الامتثال أكثر من الاندفاع باتجاه الاقتناع لان الاقتناع يحتاج مجهود ذاتي لتصل لصورة نقية، والامتثال لا يستدعي جودة الصورة ونقاوتها رغم أن نقاوة الصورة وجودتها تغير الأمور وتبعد الأنظار وتتسع معها الأفق وترحب الصدور،
وفي الختام اعتقد أن كثير من الإشكاليات تكمن في وعينا المفاهيمي، فالوعي لا مفر منه حتى وأن تهربنا عنه أو تجاهلناها فهو المشكلة وهو الحل وهو من يسعدنا أو يتعسنا وهو الوسيلة التي تُمكنُنا من العبور بسلام وتُمكُننا أيضاً من امتلاك القدرة على إصابة أهدافنا المرادة بدقة، وتُمكنٌنا من حالة الاتساق التي من خلالها نستطيع الإجابة على أي تساؤلات، ولو بحثنا عن تعريف للوعي لن نجد ما يمكن ان نقول هذا هو الوعي فعلاً، ولن نجد خطوات لتطبيقه لأنه ليس طريقة طبخ ضع مقدار كذا من ومقدار كذا من ثم اخلطهم، لأنه محير لدى الكثير من الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس وحسب وجهة نظري المتواضعة وببساطة هو نظام تشغيل داخلي يشبه الروح لا نملك التحكم فيه ويمكن أن يفيدنا ، فهو نور رباني منحه الله للإنسان، وهو الضوء الذي يفضح الظلام سوا كان الضوء أو الظلام لصالحنا أو ضدنا ، وأهم أداتين تسهم في تعزيز استخدام الوعي والاستفادة منه هما المسؤولية الأخلاقية، والمسؤولية القانونية