يشير مصطلح " شبّة النّار" عند كثير من المجتمعات في شبه الجزيرة العربية الى اشعال النّار مع بداية فصل الشتاء لا بغرض التدفئة واعداد القهوة العربية فحسب, و انما لأجل أن يلفت اشتعال النّار كل من يشاهد ألسنة اللهب سواء من الضيوف القادمين الى الدّيار أو الجيران والزائرين والعابرين كنوع من التّرحيب بهم و دعوتهم لاحتساء القهوة العربية في ليال الشتاء الباردة. وما أن يشاهد الزائر أو الضيف شبّة النّار المتّقدة, فانه لا يتردّد في المضي قدما نحو ضوء النّار حتى يصل الى المكان غير آبه بالظروف التي قد تمنعه من الزيارة والمشاركة في حوارات ومناقشات المجلس حتى دون توجيه الدّعوة مسبقا كما هو الحال في يومنا هذا, اذ أن شبّة النّار في ثقافة الأجيال السابقة تُعدّ بحد ذاتها دعوة عامة للحضور و أخذ قسطٍ من الراحة أثناء المسير أو الرحيل.
ومن هنا أصبحت شبّة النّار رمزا عروبيا للترحيب بكل قادم الى الدّيار أو عابر بالقرب منها, غير أنّ الهدف الأسمى من شبّة النّار هو تبديد حالة الخجل و الحرج من دخول الدّار دونما دعوة رسمية سابقة. ولهذا نجد أن الشاعر المعروف محمد بن شلاّح المطيري قد تطرّق لهذه الجزئية الثقافية في بيت له من الشعر قال فيه:
أمل الوجــــار و خلّــوا الباب مفتوح *** خوف المسيّـر يستـحي لا ينـــادي
و في هذا البيت الذي ذاعت شهرته بين الناس دعوة معلنة - لكل من يمر من أمام الدّار – تتضمّن ايحاءات لكرم الضيافة العربية ما يبدّد لدى الضّيف مشاعر الاستحياء ويجعله يتجرّأ على القدوم الى الدّار والجلوس مع صاحب " الوجار", و هو المكان المخصص لوضع الحطب و أدوات و رموز الضيافة العربية السعودية المتمثلة في اضرام النّار و عرض أدوات اعداد القهوة مثل الدّلال والفناجيل و البن و الهيل و حطب السّمر والطلح اضافة الى أدوات أخرى مثل المحماس و الملقاط والمنفاخ وغيرها من الأدوات و رموز الكرم الحاتمي.
و مع كتابة هذا المقال, ومع حلول أول أيام موسم المربعانية لهذا العام, فقد بدأت بأول شبّة نار منذ فصل الشتاء من العام المنصرم لخلق أجواء مفعمة بذكريات شبّة النّار, ولجعل دخان النّار يتصاعد من فوق أسوار الدّار لأجل لفت أنظار المارّة وعابري الشارع للدخول الى الدار والجلوس الى جانب الوجار وتناول القهوة والتمور السعودية الفاخرة بكل أنواعها و ألوانها.
ومن المعروف أن شبّة النّار تثير قرائح الشعراء الذين يستلهمون بعضا من أفكار قصائدهم خلال جلوسهم بالقرب من النّار المشتعلة في ليال الشتاء الباردة. ومن هؤلاء الشعراء الأمير محمد الأحمد السديري الذي وصف شبّة النار في بيت من الشعر لا يزال باقيا في ذاكرة الناس رغم مرور عقود طويلة من الزمن, فيقول السديري:
يا بجاد شبّ النّار وادن الـدلالِ *** واحمس لنا يا بجاد ما يقعد الرّاس
و دقّه بنجرٍ يا ظريف العيــالي *** يجذب لنا ربــعٍ على أكــوار جلاّس
و زلّه الى منّه رقد كــل سالـي *** و خلّه يفوح و قنّن الهيــل بقيـــاس
و صبّه و مدّه يا كريم السبالي *** يبعـد همــومي يوم اشمّه بالانفــاس
ويقول شاعر آخر في قصيدة له عن شبّة النّار:
يا ما حلا عقب العصر شبّة النّار *** في مجلسٍ كل النشــاما يجــونه
يلفونه اكبــار و يلفونه اصغـــار *** من طيب من هو فيه و يقدّرونه
ولذلك نفهم أن لشبّة النّار عند العرب معان سامية و أهداف نبيلة الى جانب أنهم يوقدونها ليلا للتدفئة واستخدامها في الطبخ واعداد القهوة وأيضا لاهتداء ابن السبيل وجلب الضيفان. و في معجم المصطلحات العامية عند العرب حينما يُهجى أحدهم أو يُنتقد يقال له: " يا طافي الضوء, يا ميت النار, الله يطفي ضوّك, أو الله يذبح نارك", أو قولهم: " فلان ناره رماد", كناية عن عدم رغبته في استقبال الضيوف. وكان كثير من أبناء البادية يحرصون على اقتناء الأنواع الجيدة من الحطب والتي منها السّمر والطلح, وهي الأكثر جمراً و الأقل دخاناً.
و عن شبّة النّار يقول الشاعر غازي بن عون:
يا ريـف قلبــي للمساميــر قم شب *** و حط المنــارة في طــويل الظــلال
عقب تشق لها جــزل الحطب جب *** وهات النّجر واحضر جــداد الدلال
و أخيرا يقول محمد الأحمد السديري في هذه الأبيات القصيرة عن شبّة النّار:
تســابقـن قلبــــــــــي هواجيــسٍ أرداف *** الليل طال وحنّ قلبي على الكيف
وناديت من حـولي يعجّــــــــل بالاسعاف *** يشب نــار ادلال بيضٍ مزاهيـــف
يا حسين شب النّار واسرف بها اسراف *** حتى يصير الجمر فيها مشانيـف