في لحظة تأمل سريعة اكتشفت كم كُنا بعيدين عن الواقع حيث أننا نعيش الحياة بظاهرها في أغلب الأحيان، دون تفكر أو تأمل ، لذلك افتقدنا الطعم الحقيقي للحياة ، فمن منا من يتأمل ما حوله من البشر والشجر والدواب والأرض والسماوات العلى، مع أن الله يدعونا دائماً لتأمل والتفكر ، إلا أننا ننشغل في مصالحنا الخاصة وننغمس فيها ولا نُعير إهتماماً بما حولنا.
كنت في زيارة لأحد الأصدقاء في جدة ذات يوم وقد اعتدنا تبادل الزيارات بدون موعد ، بحكم الصداقة فيما بيننا أزوره ويزورني على أي حال وفي أي وقت ، وعلى مايسر الله وبدون تكلف أو عناء ،، فكانت الأجواء ذلك النهار لطيفة بحكم أن أننا في فصل الشتاء ، وكان بزاوية فناء البيت ، شجرة كبيرة ذات أفرع في كل الاتجاهات و ذواتا أفنان و أوراق عريضة جميلة و متناسقة وشاهقة الإرتفاع ، قَلبت فيها ناظري متعجباً و كأنني لأول مرة أرى تلك الشجرة وبهذا الشكل رغم أنها كانت أمام عيني منذ سنين عديدة ولكنها لم تُلفت انتباهي كهذه المرة حيث كانت أغلب زياراتي في فترات الصيف مما يمنع مجرد التفكير أن تستظل بظلها لشدة حرارة الأجواء هناك ووهج الشمس وزيادة الرطوبة ، فقلت لصديقي نريد أن نجلس تحت هذه الشجرة الجميلة الرائعة مع هذه الأجواء الخلابة لنحتسي ماتيسر لنا من القهوة ونستعرض بعض أحديثنا في هذا المكان ، حيث كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً ،فقال حباً وكرامة و ذهب إلى بعض غايته.
وأنا أنتظره ليأتي لنا بكراسي أو فرشة لنجلس عليها، شد إنتباهي فِند " جمع فنود و أفناد " تلك الشجرة والتي لمن يشاهدها يتخيل إليه أنها مسألة حسابية لتداخل تلك الفنود ببعضها فظهر لي لوحة جميلة في صورة معقدة من التشابك والتداخل فسبحان من أبدع فيها ، وتلك الأغصان المتدلية هنا وهناك ، فدخلت في حالة من التفكر والتفكير وذهبت إلى عالمٍ آخر مع هذه الشجرة فكيف كانت بدايتها حبة من نواة ثم شقت الأرض فخرجت بغصن صغير ووريقات صغيرة لربما أثر فيها طفلاً يلهو بيده فينزعها وهي في بدايتها ، إلا أنها كبرت شيئاً فشيئاً وفي غفلة من الزمن حتى أصبحت بهذه الضخامة طولاً وعرضاً ، مما يصعب إزالتها لتشابكها مع المنازل المجاورة لها بل رأيت أنها إضافة جميلة لتلك البيوت والشارع وفناء المنزل وعلامة فارقة بالحي.
كل ذلك ولم نلاحظ كيف بدأت وأين وصلت في غمرة انشغالنا في هذه الحياة عن كل ماحولنا من الأشياء البسيطة والعميقة في حياتنا مما أدخلني في دوامة من التفكير والتحليل والتساؤل عن ماغفلنا عنه في كل تفاصيل حياتنا عن الأهل والأحباب والجيران وعلى كمية من المشاعر من أفراح وأحزان على من عاش حولنا ومعنا من البشر ، وكيف قضى كلاً منا حياته في غفلة عن الآخر ، فالصغير كبر وشاب ، والمريض شُفي أو مات ، والمسافر عاد أم أطال الغيّاب ، ومن غادر حياتنا هل عاد أم تلحف بليلٍ سرمدي توسدته ظروف الحياة الصعبة ، كيف عاش وكيف عشنا ، هل كان وحيداً في غمرة أحضان النسيان وجحود الإنسان ، والسوآل هنا هل تألمنا بألم الصديق والأخ والأخت والقريب والجار بالجنب ، أم تركناهم يصارعون حياتهم بدون أنيس أو رفيق يواسيهم ، هل أحسسنا بأوجاع الأباء والأمهات ، عندما كبُرنا وحكمة علينا ظروف الحياة بالانشغال عنهم ، وهم من سهروا وجاعوا ومرضوا ، وتعلقت قلوبهم بنا ونحن في غفلة ساهون ، وتركناهم في مهب الريح لا سائلٌ ولا مجيب.
الله ما أقسى الحياة بنا وما أقسى الحياة علينا ، كلاً منا في فلك يسبحون ، حقيقةً لم أخرج من دائرة التأمل هذه ، إلا على صوت صديقي يناديني ، ياصاحبي أين وصلت ، القهوة بردت وأنت لا تجيبني. فلم أنتبه لنفسي إلا بعد أن ربت على كتفي قائلاً عسى ماشر فقلت هاهـ لالا لا شيء أريد المغادرة والمغادرة فقط لعلنا نلتقي فيما بعد.
وفي النهاية.
أتعتقدون أيها السادة والسيدات ، لو كنا نتأمل ونفكر دائماً في هذا الكون وما حوى هل سيكون هذا حالنا.
الإجابة حتماً لديكم.