لي صديقٌ أنهكتْه الجراحاتُ واصطلحتْ عليه العللُ، فهو يداوِرُها مراتٍ ومراتٍ لينجوَ بنفسِه من هذه المهالكِ وتلك الآفاتِ، يعيشُ في مَأُوىً أشبَهُ بالكوخِ داخلَ سياجٍ من الأسلاكِ في قطعةٍ نائيةٍ وحوله شُجيراتٌ هنا وهناك تتخلَّلُها أعشابٌ و أوشاب من حشائش الأرض، يحلُم في زمن الأوغاد براحة الأنفسِ لا براحة الأجسَادِ، انطوى على نفسِه حتى ملَّتْ منه نفسُه يرى الطريقَ بعيداً ويستأنسُ بِالصَّحائفِ التي تحملُ العلمَ والأدبَ و الحِكْمةَ التي ارتضاها بعد طولِ فراق.
أراه مُستغرِقاً كراهبٍ في صومعة يتأمل أحياناً ويُسرفُ بالأمل و لكنَّ المضايقَ في حياتِه قد خنقتْ الأملَ في روحِه فَقَدَ المالَ والجاهَ والمنصب؛ و هي لا تساوي عنده قُلامةَ ظُفْر نأتْ عنه بل هو الذي نأى عنها، وماذا تساوي هذه العلائقُ الدنيويةُ لمن وجد نفسَه وعلم علم اليقين بزوال هذه العلائق عند تقلبات الدهر وغِيَرِ الأيام.
يكفيكَ من غِيَرِ الأيامِ ما صَنَعَتْ
حوادثُ الدَّهرِ بالفضلِ بنِ مروانِ
إنَّ اللياليَ لم تُحسِنْ إلى أَحَدٍ
إلا أساءتْ إليه بعدَ إحسانِ
إذا تراخى إلى أُذُنِه الحديثُ عن العلمانية الشاملة الكامنة التي تفصِلُ القيم و الآداب والمعايير عن الإنسان و تُطوِّحُ به في مهاوي الارتكاس الدنيوي اللَّقِس، أجدُ منه انتشاءً وخِفَّةً ينتفضُ منها كيانُه "كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَه القطْرُ".
للَّه هذه الساعات ما أطيبَها! وأَجْمِلْ بها من ساعات!
هي الأنس في نصاعة الحقائق وتجليات الحقيقة
يا أُهَيْلَ الحيّ منْ وادِي الغضا
وبقلْبي مسْكَنٌ أنْتُمْ بهِ
ضاقَ عْنْ وجْدي بكُمْ رحْبُ الفَضا
لا أبالِي شرْقُهُ منْ غَرْبِهِ
التمسَ الرجلُ الدربَ و هو في فسحةٍ من الأجل، و هاهي الأنفاس بين جوانحه تتردد لم يكن يشعرُ بها قبلُ، و اليوم هو يُحصيها حتى لا تسقط ليستفيدَ علماً يغنيه عن سائر الحسَبِ و النَّشب.
الفيض الإلهي، و الكرم الربانيُّ، لائِطٌ بتلك الصحائف من أول لحظة تنزُّلِ الوحيِّ، على محمد صلى الله عيه و سلم
و ما التعلُّقُ بها إلا نجاة من هول الارتداد في حمأة الدناءة وارتطام بِرِجْسِها.